الأربعاء، 13 نوفمبر 2013

صوت الحق.. زينب بنت علي (ع)!

 مرة أخرى تختلط المشاعر و الأحاسيس أمام الأحداث التاريخية التي تتميز بأنموذجها الفريد. و فرادة هذا الأنموذج لا يتوقف على بطولة عابرة أو خطبة غراء أو رمية سهم صائبة.. إنها بطولة فريدة لامرأة فريدة و في زمن فريد!

    مرة أخرى تختلط المشاعر و الأحاسيس أمام الأحداث التاريخية التي تتميز بأنموذجها الفريد. و فرادة هذا الأنموذج لا يتوقف على بطولة عابرة أو خطبة غراء أو رمية سهم صائبة.. إنها بطولة فريدة لامرأة فريدة و في زمن فريد!
فرادة ذلك الأنموذج النسائي المتمثل في السيدة زينب بنت علي عليها السلام في مواقفها الفريدة التي تجلت بوضوح منذ أن انطلق أخوها الحسين عليه السلام من مكة المكرمة الى كربلاء. انطلق الحسين برفقة زينب الأخت التي تصغره أربعة أعوام من مكة المكرمة التي كان متوجها إليها من قبل لأداء فريضة الحج. إلا أن تلك الفريضة العميقة بمعانيها في محاربة شياطين الإنس و الجن تجلت رمزيتها واقعا ملموسا على أرض كربلاء! قال الحسين: "إني لم أخرج أشرا و لا بطرا  و إنما خرجت لطلب الاصلاح في أمتي جدي، أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر." و كانت زينب في ذلك الطريق تحُجُّ معه مسترخصةً كل شيء في سبيل الإصلاح .. ابتداء من نفسها و مرورا بأبنائها و انتهاء بأهل بيتها! فكانت بحق بطلة كربلاء.
ليس من السهل الغوص في تاريخ امرأة انتشلت الدين من الضياع. و ليس من اليسر سبْرَ معان الإباء و التضحية و البطولة في يوم عاشوراء أو في مسيرة سبايا كربلاء..إلا أن ما يمكن رصده من تلك التجليات المحمدية تستحق أن تنشر لتضيء جوانب الإنسانية بلمساتها الإيمانية و مواقفها البطولية في زمن القحط! فلهذا كانت عاشوراء.. لتسقي الأرض كلما أصابها جفاف و قحط.
لزينب صور متعددة تكمل إحداها الأخرى لتصيغ نسيجا متماسكا شكَّل جوهر نجاح تلك الملحمة الكربلائية. فزينب هي الأخت و الحامية و القائدة و أخيرا الإعلامية التي أرست معالم الثورة. لكن زينب الأم لم يكن لها ظهور فهي لم تبك فلذتي كبدها عون و محمد إبني عبدالله بن جعفر الطيار و إنما بكت المبادئ و القيم و الطُهْرَ و "حسيناً"!
و حينما وقف الحسين عليه السلام يوم كربلاء حاملا رضيعه مقطع الأوداج بين يديه كانت هناك زينب معه و هو يستخرج ذلك السهم من نحر الرضيع ملقيا بدمائه الزكية نحو السماء قائلا: "هوَّنَ عليَّ ما نزلَ بي أنهُ بعين الله". و لعل الكلمات الحسينية التي أسرَّ بها الإمام الحسين إليها ألهمتها الصبر و التماسك لتواصل بذلك مسيرتها الكربلائية حين قال لها: "جَدِّي خيرٌ مني و أبي خيرٌ مني و أُمي خيرٌ و أخي خيرٌ منى.. يا أختاه إني أقمستُ عليك فأبري قسمي، لا تشُقي عليَّ جيباً و لا تخْمشي عليَّ وجها و لا تدْعِ عليَّ بالويل و الثبور، إذا أنا هلكت". و هكذا كانت زينب البطلة الشامخة التي واصلت مسيرتها الإيمانية متحلية بالصبر و الكبرياء لتوصل رسالة الحسين عليه السلام الى العالم بأسره.
زينب.. تجلى دورها القيادي في يوم كربلاء منذ ساعاته الأولى حين سألت أخاها الحسين مستطلعة ولاء أصحابه قائلة له: أخي هل استعلمت من أصحابك نياتهم؟ فإني أخشى أن يسلموك عند الوثبة و اصطكاك الأسنة!". إلا أن رد الحسين الذي وصفهم به قائلا: والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلا الأشْوَسَ الأقْعَس يستأنِسون بالمنية دوني استيناس الطفل إلي مَحَالب أمه".. هدأ من روعتها. و في ليلة الحادي عشر من محرم حينما انسحب ظل أخيها العباس حامي الخيام و حارس الأطفال ملتحقا بركب الشهداء و الأبرار، كانت زينب تقف بين تلك التلال تحمي النساء و الأطفال، تواسي تلك و تعانق أخرى. لكن مسيرة السبايا استمرت و زينب تتصدرها بحكمتها و شجاعتها و نبوغها.
حينما نتحدث عن الشجاعة و الجرأة فهي صفات النوابغ و الملهمين و حينما نتحدث عن الحكمة و بُعْدِ النظَر فهي من مميزات القيادات الكبرى و حينما نتحدث عن طلاقة اللسان و القدرات الخطابية فنحن نتحدث عن القيادة الاعلامية. و حينما نشير إلى الإعلام الحسيني فنحن نتحدث عن الصور و الأقوال و الأفعال الحية التي تعيشها العين المجردة و تحاكيها العواطف و المشاعر.. حينها تنكشف الخفايا و تُصَحَّحُ الحقائقُ المشوهة و تحتضن العقولُ معانيها لتعي هول ما ارتكبت من جريمة: "أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟ و أي عهد له نكثتم؟ و أي كريمة له أبرزتم؟ و أي حرمة له هتكتم؟ و أي دم له سفكتم؟ ..." قالتها بطلة كربلاء. و في كل تلك المشاهد فنحن  نتحدث عن زينب بنت علي عليها السلام.
بعد أن انتقل الأصحاب و أهل بيت النبوة و الحسين عليه السلام الى جنات الخلد فتح اعداء الله و رسوله نار حقدهم على خيام أهل بيت النبوة التي تضم النساء و الأطفال و بدأت رحلة السبايا.. التي وصفها الشاعر العماني هلال البوسعيدي قائلا:
عجبا أيُقتَـل الحسـينُ و تبقــــــــى            في هناءٍ من بعده الأشقياءُ
                و تُضامُ الأباةُ إن طلبو الحقَّ            و تُسبى من الخدور النساءُ
النساء المطهراتُ من كل عيبٍ          و اللواتي شِعارهن الحيــــــــــــاءُ
 رحلة السبي بدأت بتوديع تلك الأجساد المقطعة التي افترشت الصحراء. و تردد صدى صوت زينب في تلك البقعة من أرض كربلاء و هي تودع أخاها المرتمي على تلك الأرض الطاهرة  قائلة: "أخي لو خُيِّرتُ بين المقام عندك أو الرحيل لاخترت المقام عندك و لو أن السباع تأكل من لحمي. يا بن أمي! لقد كللت عن المدافعة لهؤلاء النساء و الأطفال و هذا متني قد اسود من الضرب!".  و هكذا رحلت بطلة كربلاء بنت على بن ابي طالب (ع) حفيدة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم (رغم أن المرء يحفظ في ولده) سبية من سبايا.. قيل "سبايا الروم" و قيل "سبايا الفرس و الديلم".. لكنها أعلنتها صريحة مدوية: "نحن أُسارى آل محمد".
و سارت سبايا محمد صلى الله عليه و آله وسلم من كربلاء الى الشام مرورا بقصر الإمارة بالكوفة التي كانت قبل بضعة عقود عاصمة أبيها الإمام علي عليه السلام. و حينما أُدخل الركب في قصر عبيدالله بن زياد تطلعت سبايا الرسول في الوجوه التي سقطت عنها أقنعة التزلف و المراوغة لسادتها لتواجه كلمات الحرة زينب و هي تقول لهم في قصر من تلك القصور البائدة: .. أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة و لا هدأت الرنة. انما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم.. و أنى ترخصون قتل سليل خاتم النبوة؟ و سيد شباب أهل الجنة و ملاذ حيرتكم و مفزع نازلتكم.."
و تواصل مسيرة السبي التي تخللتها الكثير من الصور المؤلمة المأساوية، لتزرع في كل أرض يمرون بها منارة يرفع عليها اسم محمد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم تستقي ثباتها و استقامتها من ألم و تعب و مأساة طفلة من أطفال بيت النبوة التي تسقط شهيدة الثبات على مبادىء الإسلام المحمدي. و زينب هناك موزعة الجوانح بين سبايا رسول الله تعطف على الأطفال وتراعي النسوة ثم تقف في عتمة الليل لتقابل رب العباد في ناشئة ليلها و هي تلفظ بلسان أخيها الحسين:" اللهم إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى."
لقد كان التاريخ مجحفا في حق أهل بيت النبوة ..وكيف لا و قد التحق الخلص بجنان الخلد أو اودعو السجون و الطوامير.. و لم يتبقَّ في تلك الساحة ليسجل حكاية الأسر إلا من مالوا نحو المال و الدنانير! إلا أن رغم كل ذلك فما كتب (رغم أسر الكلمة و تشويه التاريخ و الحقائق) أصبح شعلة ينير للثائرين دروب الظلام. و يقف التاريخ مشدوها أمام حدث ترحيل سبايا محمد من الكوفة الى الشام بأمر من يزيد بن معاوية.. فيسار بهم الى الشام "كما يسار بسبايا الكفار، يتصفح وجوههن أهل الأقطار" في رحلة عانوا فيها القساوة و الفظاظة إلى أن وصلوا باب قصر يزيد بدمشق كما عبرت عنها السيدة زينب في خطبتها أمام يزيد: "أمن العدل يا ابْنَ الطُّلقاء تخديرُك حرائرَك و إماءك و سَوْقُك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهن و أبديت وجوههن و تحدوا بهن الأعداء من بلد الى بلد و يستشرفُهُن أهل المناقل..".
ثم تقف زينب عليها السلام في مجلس يزيد، ملكِ النفوس المنحطة، مدافعة عن استهتار تلك النفوس المريبة لتقول ليزيد حينما أظهر موافقته على اخذ أحد بنات الرسول خادمة لأحد الحاضرين: كلا و الله ما جعل الله ذلك لك إلا أن تخرج عن ملتنا و تدين بغير ديننا! و استطار يزيد غضبا و شررا و هو يسمع الى زينب السبية ترد عليه: إياي تستقبلين بهذا؟ إنما خرج من الدين أبوك و أخوك؟ فقالت زينب بشجاعة: بدين الله و دين أبي و أخى اهتديت أنت وجدك و أبوك.. إن كنت مسلما!
فعلا إن كنت مسلما.. فقد وضع رأس الحسين أمامه باستخفاف و بدأ يضرب بالعصا على شفتيه و أسنانه وهو حينذاك في نشوته يترنم بأبيات ابن الزُّبَعْرى :
لعبت هاشمُ بالملك فلا          خبرٌ جاء و لا وحيٌ نزل
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا        جزعَ الخزرج من وقْعِ الأسَل
في تلك الوقفه التي أراد منها يزيد إهانة بيت النبوة جلجلت خطبة زينب لتهز أركان المجلس الأموي الذي ما استقام من ساعتها، و هي تقول: "ما فَريْتَ إلا جِلدَك و ما جزرْت إلا لحمَك، و ستَرِدُ على رسول الله بما تحملت من دم ذريته و انتهكت من حرمته و سفكت من دماء عترته و لُحْمَته.. و لئن جَرَّتْ عليَّ الدواهي مخاطَبتَك، إني لأستصغِرُ قدْرَك، و أسْتَعْضِمُ تَقْريعك.. "
ثم واصلت خطبتها كأنها تنظر الى القادم من الأيام و هي تقول: " فكِدْ كَيْدَك و اسْعَ سعْيَك و ناصِبْ جَهْدَك، فواللهِ الذي شرفنا بالوحي و الكتاب و النبوة .. لا تَدرُكُ أمَدَنا و لا تبلغُ غايتنا و لا تَمحُوَنَّ ذكرنا و لا تُميتُ وحْيَنَا لا يرحضُ عنك عارُها، و هل رأيُك الا فَنَد؟ و أيامُك الا عدد؟ و جمعُك الا بدَد؟"
نعم لقد تبدد يزيد و انمحى أثر تلك القصور الشامخة إلا أن كل سبية سقطت من سبايا كربلاء لها مقامٌ يعلو شامخا في الأرض التي احتضنت اجسادهم الشريفة.. أنها زينب التي واصلت المسير بينما الحسين عليه السلام كما قال الشاعر العماني د. حسين محسن اللواتي:  
جسمٌ على الرمضاء كالأشلاءِ
رأسٌ على الأرماحِ كالعليــــــــــاءِ
يـروي لنـا عــزاً مــــــــــــــــــــع الآراءِ
نَصْــــــــرٌ برغــمِ يزيــدٍ بعــــــــــــــــــــــــــــــــــزمِ زينـب
 فها هو النصر يتمثل في ذكر محمد صلى الله عليه و آله و سلم الذي يعلو كل يوم على المآذن مجللا مدويا: أشهد أن محمداً رسول الله. و رحم الله الإمام الشافعي حين قال:
يا آل بيت رسول الله حبكمُ      فرضٌ من الله في القرآن أنزلهُ
يكفيكمُ من عظيم الفخرِ أنكمُ    من لم يصلِّ عليكم لاصلاة لهُ
اللهم صلي على محمد و آل محمد و احشرنا معهم و اجعلنا في زمرة اوليائهم. اهتزت عروش و قامت دول و تكالبت على محو ذكرهم ملوك و طواغيت الا أن مقاماتهم تتهافت إليها قلوب محبيهم.. : فـ" اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ خَيْرِ خَلْقِ اللهِ وَسَيِّدِ خَلْقِهِ... " و رحمة الله و بركاته.