الأحد، 10 نوفمبر 2013

القيم الإنسانية وازدواجية العقل العربي

يقول المفكر علي الوردي في كتابه "وعاظ السلاطين" "إن العرب مصابون بداء ازدواجية الشخصية أكثر من غيرهم من الأمم. و لعل السبب في ذلك ناشئ عن ..


يقول المفكر علي الوردي في كتابه "وعاظ السلاطين" "إن العرب مصابون بداء ازدواجية الشخصية أكثر من غيرهم من الأمم. و لعل السبب في ذلك ناشئ عن كونهم و قعوا أثناء تطورهم الحضاري تحت تأثير عاملين متناقضين هما: البداوة و الاسلام." ثم يوضح أن صفات البداوة التي تتسم بالكبرياء و حب الرئاسة و التفاخر بالأنساب تختلف عن الصفات التي دعى لها الاسلام و هي الخضوع و التسامح و التقوى و العدالة. و من هنا فإنه يشير بأن للإنسان العربي عقلين: عقل ظاهري و عقل باطني. و هذان العقلان (الظاهري و الباطني) يختلفان في تلقيهما للموعظة كما و إنهما (من وجهة نظري) يختلفان في طريقة تعاملهما مع الأحداث الحياتية.
 
و انطلاقا من فكر الوردي فهناك فجوة كبيرة في عقلية الإنسان العربي بين ما يقوله و ما يفعله. و هذه الفجوة نجد لها الكثير من المصاديق في حياتنا سواء على الصعيد الذاتي أو الصعيد الإجتماعي. فالإنسان العربي أو المسلم يعيش على الصعيد الذاتي تناقضا كبيرا بين ما يقوله و بين ما يفعله، و هنا يذكر علي الوردي بعض الأمثلة. فمن بين تلك الأمثلة يسرد قصة شخص من أولي تدين و إيمان، يقضي أوقاته مسبحا عابدا لله إلا أنه (أي الوردي) اكتشف من حديثة أن عقلية ذلك الرجل العابد عقلية عشائرية. فهو لا يجد حرجا في الكذب أو إخفاء الحقائق من أجل المحافظة على أبناء عشيرته. و مثل هذه النماذج عديدة و كثيرة في مجتمعاتنا فنراها على صعيد الخطاب الشفهي تعيش حالة المثالية و التي تتناقض مع واقعها العملي.  و هذا التناقض أيضا ينطبق على شخصيات تأخذ بعدا اجتماعيا في مسيرتهم الحياتيه كمسؤولين على المستوى الشعبي أو الرسمي كالوزراء و غيرهم. و يصف الإمام علي (عليه السلام) هذا النوع من الشخصية بقوله: " فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ في مِثْلِ نَسْجِ العَنْكَبُوتِ: لاَ يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ، إنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ. جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهلات، عَاش رَكَّابُ عَشَوَات، لَمْ يَعَضَّ عَلَى العِلْمِ بِضِرْس قَاطِع، يُذرِي الرِّوَايَاتِ إذْراءَ الرِّيحِ الهَشِيمَ، لاَ مَلِيٌ ـ وَاللهِ ـ بِإِصْدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ، وَلاَ هُوَ أَهْلٌ لِما فُوِّضَ إليه، لاَ يَحْسَبُ العِلْمَ في شيْء مِمَّا أَنْكَرَهُ ... ". نستنبط من كلام الامام علي عليه السلام أن هؤلاء الاشخاص لا يعيشون وضوح رؤية لانهم فُوِّضُوا أمورا لا يعلمون عنها أو غير مؤهلين لها. و بهذا نشهد على الصعيد الإجتماعي خطبا و مواعظ و أقوال ما أن تطرح حتى تتبخر لأنها لا تحمل جذورا راسخة و لهذا فلا يبقى لها امتداد في حياة المستمعين.
هذه الازدواجية الإجتماعية لها الكثير من الصيغ و الصور في واقعنا الحياتي. فالقيم و المعايير و الشعارات الإنسانية التي لا يشوبها أي دنس أوجدت لنا عالما من المثاليات لنتغنى بها. إلا أن هذا العالم المثالي بمجرد ما يتعرض لامتحان أو اختبار فإنه يسقط سقوط الهزيل الذي ليس له هيكل أو عماد يسنده. لانه صنيعة العقل الظاهري الذي هو تلك الصورة الجميلة الهشة التي لا تقدم و لا تؤخر سوى أنها تقدم آمالا و أحلاما لساميعها بينما العقل الباطني هو الذي يحرك الأحداث و يخلق الأفعال.
في ضوء رؤية المفكر علي الوردي فإن فهمنا للكثير من الأحداث السياسية و الحياتية في العالم العربي لن تنتهي بجملة: لا اعرف لماذا نحن مختلفون"! لأن هذا الاختلاف يكمن  في عقلية البداوة التي لم يستطع الدين صقلها و لا المفاهيم الحضارية ترميمها. فعلى سبيل المثال مطالبة الإنسان بحقوقه هي واحدة من القيم الإسلامية الأصيلة التي أقرها الدين الحنيف و دعى إليها و اعتبر الساكت عن حقه شيطانا أخرسا، سواء كان ذلك الحق ماديا أم معنويا أو كان على مستوى الدولة أم الأفراد نجد أن واقعنا العربي يحول صاحب أية مطالبة بالحقوق إلى "مشاكس" أو "مشاغب". و لا تفهم المطالبات الحقة على أنها اسلوب للاصلاح أو البناء كما يراد لها أن تفهم أو تستوعب من وجهة النظر الاسلامية أو العقلية. فالإنسان في هذه الحياة له حقوق كما أن عليه واجبات و الموازنة بينهما هي التي تحقق التوازن الإجتماعي. و أي تقصير من الجانب القوي في إعطاء حق الجانب الضعيف تؤثر في تفعيل واجباته تجاهه و بالتالي تؤثر في جميع الجوانب الإجتماعية المتعلقة به. و هذا يفسر قول الامام على عليه السلام الذي يوضح أهمية هذه النقطة الانسانية بالنسبة له كخليفة للمسلمين من خلال ما أشار اليه في نهج البلاغة قائلا: "الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَهُ، وَالْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مَنْهُ، رَضِينَا عَنِ اللهِ قَضَاءَهُ، وَسَلَّمْنَا له أَمْرَهُ." فإقرار حقوق الآخرين أو حقوق الشعب أو الموظفين في المفهوم الإسلامي واحدة من أرقى السمات الإنسانية التي دعا إليها الدين الاسلامي، إلا أنها لم تكن معروفة عند العرب قبل الإسلام فالحياة البدوية لم تعترف بحقوق الضعفاء.  يصف الامام علي (ع) في نهج البلاغة تلك الحياة بقوله: "يَوْمَئِذ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وَأَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ، وَطَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ... وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ العَرَبِ عَلَى شَرِّ دِين، وَفِي شَرِّ دَار، مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجارَة خُشْن، وَحَيَّات صُمّ ، تشْرَبُونَ الكَدِرَ، وَتَأْكُلُونَ الجَشِبَ ، وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، وَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ، الاْصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ، وَالاْثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ."
العقلية البدوية تنظر إلى الأمور من وجهة نظر محدودة. فالحياة الجاهلية البدوية التي كانت تتسم بالحروب و القتال كانت أهدافها أهدافا مادية تختصر على كلمتين النصر أو الهزيمة. و أهمية النصر و الهزيمة تتجلى في الغنائم المادية التي كان العرب بحاجة لها لاستمرار حياتهم. فهذا المفهوم العربي الذي انغرس في العقل العربي كانت له جذور بيولوجية في تشبث الإنسان بالحياة. لهذا فالحروب كانت تقوم لأتفه الأسباب و لغياب عنصر الحكمة و تستمر لسنين طويلة كما كانت حرب الداحس و الغبراء و غيرها. 
شهد العالم المعاصر الحرب الايرانية العراقية التي شنها صدام حسين بمؤازة الغرب على الجمهورية الاسلامية الايرانية في  "سبتمبر 1980 حتى أغسطس 1988، خلفت وراءها نحو مليون قتيل وخسائر مالية بلغت 400 مليار دولار أمريكي، و دامت ثمان سنوات لتكون بذلك أطول نزاع عسكري في القرن العشرين".  و حينما  صدر قرار الامم المتحدة بوقف الحرب شكلت موافقة إيران مفاجأة كبيرة للدول العربية الداعمة لصدام حسين أكثر من غيرهم. لأن هذه العقليات العربية كانت لا تفهم للحرب معنى غير النصر أو الهزيمة فلم يكن متوقعا إعلان إيران قبولها لقرار الأمم المتحدة بوقف الحرب. و الذي كان ينظر إليه من قبلهم على أنه اعتراف بالهزيمة بسبب أن الحكمة من وراء القبول لم تستوعب. و قد أوضح الامام الخميني ذلك في حديثه مع بعض المتشككين، قائلا: "إننا نتحدث مع الناس صادقين، وإن قبولنا لقرار مجلس الأمن معناه أننا نفكر في سلام واستقرار دائمين في المنطقة..." و هذا هو مفهوم النصر، إنه مد بساط السلام و الأمن و ليس بمفهومه الآني المتثمل بالغلبة أو الهزيمة. و ها هي الأيام تثبت صحة ذلك فأين نحن العرب الآن و أين إيران سياسيا و علميا و صناعيا و غيرها.
حينما تتسع للذهنية العربية استيعاب مفهوم الهزيمة و النصر من خلال فهم المجتمع و الإنسان فكلمة النصر أو كلمة الهزيمة لن تكون محددة بالتعريفات المادية و انما ستكون متحركة ضمن أطر انسانية سامية. و مصطلحات مثل العدالة و حرية الرأي و المطالبة بالحقوق و الواجبات لن تكون كلمات جوفاء تأخذ لها أكثر من شكل بل ستكون روحا تعيش و تتحرك بين كيانات المجتمع..عندها فقط سنعيش بعقلية واحدة من غير ازدواجية بين الباطن و الظاهر و لهذا وجب ...أن نعيد النظر!