الأحد، 1 أبريل 2018

الموت في أدب الأطفال


الموت من أصعب الأمور على الشرح للأطفال. ولا يصعب الشرح فقط عندما يفقد الطفل أحد والديه أو جدّه أو جدّته، بل يبقى الأمر كذلك في كل مرة يسمع فيها الطفل أن شخصاً من معارفه ...


https://qafilah.com/ar/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D8%AF%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B7%D9%81%D8%A7%D9%84/

 لطول المقال و محدودية المساحة في المجلة تم حذف بعض الفقرات. 


        الفقد.. الموت.. الرحيل كلمات قصيرة إلا أن وقعها كبير على أنفس المحبين للشخص الراحل أو الفقيد أو الميت. يُعد الموت من الأحداث الصعبة التي تمر على الطفل الصغير في عالمنا الكبير. رحيل أو فقد قريب أو صديق أو أم أو أب أو.. من الأحداث التي يصعب شرحها للطفل إلا ان التربويين والمختصين في المجال النفسي استفادوا من أدب الأطفال في معالجة هذه المخاوف التي تنتاب الأطفال عند فقد عزيز عليهم.

        الدراسات التي تتناول موضوع الموت في أدب الأطفال تبين أن تصور الطفل للموت له أوجه متعددة وفقا لمراحل العمر المختلفة، من الطفولة المبكرة حتى العمر المتوسط. ومن ضمن تلك الأوجه المتعددة كما أشارت الدراسة، توجد ثلاثة أوجه هامة: 1) إن الطفل يدرك أن الأشياء التي تموت لا ترجع إلى الحياة، 2) الموت لابد منه لجميع الأحياء، 3) جميع أنشطة الأجسام تتوقف عند الموت. وتبين نتائج الدراسة التي أجريت في جامعة (أوهايو) على عدد كبير من قصص الأطفال سواء المصورة  منها أو غير المصورة بأن الموضوع الريئسي الذي تناولته قصص الأطفال تركز على الموت من الجانب العاطفي وعلى الحزن الذي قد يصاحب الأطفال بفقد عزيز. كما اظهرت الدراسة أن القصص المصورة تركز بشكل أكبر على الأسباب البيولوجية لموت الشخص. 

        في عالمنا العربي الذي نعيش فيه يوجد نقص كبير في قصص الأطفال التي تعالج مسألة الموت، لذلك فمن الطبيعي أن نفتقد إلى دراسات شبيهة كتلك التي أجريت في الغرب. إلا أن استقراء الوضع الاجتماعي العام يجعلنا ندرك ان المجتمعات تتأثر بمعتقداتها الدينية في تقديم مفهوم الموت للأطفال. ففي المجتمعات الدينية، يتعلم الأطفال منذ الصغر أن الموت مقترن بانتقال الفرد من هذه الحياة إلى الجنة. ومن الطريف أن الطفل لايدرك مفهوم الجنة، لكنه يردد ما يقوله الآخرون له. فحينما فقدنا والدي (رحمة الله عليه) قلنا لحفيدتي ذات الأعوام الثلاثة أن جدها الأكبر قد ذهب إلى الجنة. وحيث ان إحدى عماتها تلقب داخل البيت بـ "جنة"، فالحفيدة حينما سئلت عن الجد الفقيد ردت: إنه ذهب إلى حيث عمتها "جنة" التي تعيش حاليا في بلد آخر.

        وقعت في يدي ثلاث قصص للأطفال في العالم العربي التي تتناول موضوع الموت. القصة الاولى: هي "أنا وماه" للكاتبة ابتهاج الحارثي والتي فازت بجائزة اتصالات في عام 2015. القصة الثانية: هي قصة "الخفي" للكاتبة أمل فرح والتي رشحت ضمن القائمة القصيرة لجائزة اتصالات لعام 2017. والقصة الثالثة هي قصة "أشتاق.. أشتاق" للكاتبة ناهد الشوا.

        تناولت القصص الثلاث موضوع الموت من زوايا وأساليب مختلفة مما يسهم في عملية التنويع والإضافة إلى المكتبة العربية في مجال أدب الأطفال. وسأتناول كل قصة على حدة في محاولة الإضاءة على إيجابيات القصة والتوقف عند النقاط التي تستدعي التطوير.

        قصة "أنا وماه".. القصة الفائزة في جائزة اتصالات لعام 2015 هي وليدة مشروع دراسي للكاتبة لنيل شهادة الماجستير كما علمت من الكاتبة. تناولت قصة "أنا وماه" البيئة العمانية في أحداث قصتها وقدمت عرضا جميلا لبعض العادات والتقاليد العمانية. بدأت القصة بشكل جميل في تعريف الطفل بنفسه وأسرته وبشكل تلقائي عرف الطفل مسمى "الجدة" في إحدى اللهجات العمانية. تمت معالجة عقدة القصة بشكل حوار هادئ بين الأم وابنها من أجل توصيل فكرة موت الجدة.

        برأيي أن الحوار الذي كان من المتوقع أن يأخذ مجرى معالجة حزن الطفل على جدته، تحول إلى أداة في تأصيل ذلك الحزن. فالكاتبة عكست حزنها وشعورها على أحداث القصة فطغى حزنا عميقا على الحوار الدائر بين الأم وطفلها. ويستطيع القارئ أن يستشعر من تلك الحوارات أن القصة هي تجربة ذاتية للكاتبة. هذا الحوار الحزين في بعض أجزائه لا يتناسب مع الفئة العمرية للأطفال. فالأطفال في هذا العمر يعيشون الحزن بشكل مختلف ولا يعكسونه على الأشياء التي من حولهم. بل أنهم يتجاهلونه وينشغلون بالأحداث الجارية من حولهم. تأثير الحزن لا يظهر عليهم إلا عبر المحيط الذي يعيشونه، وبمعنى آخر، إن المحيط الاسري للطفل قد يؤصل ذلك الحزن ويعمقه وهذا ما كان واضحا في قصة "أنا وماه"، بينما كان من الجميل تخفيف حدة الحزن التي ظهرت في بعض الجمل. فمثلا حينما سأل عزان إنْ كانوا سيأكلون الرطب هذا الصيف أم لا ، فأجابت الأم:"لن نأكله هذا الصيف حبيبي". أو حينما سألها إنْ كانت بهلا خضراء الآن فردت الأم: "لم تعد خضراء..يا حبيبي لم تعد خضراء..". هناك نقطة أخرى وهي أن الأم جعلت الطفل يتقمص دورها حينما يقول لأمه بعد أن أغمض عينيه: "استطيع أن أراها وهي تخيط دشاديشها..". فالأطفال في عمر الخامسة او السادسة لا يحتاجون إلى إغماض أعينيهم لتذكر الماضي. وهكذا تمر علينا بعض العبارات سواء من حيث المعنى أو حتى التعبير ومستوى اللغة التي توحي بأن الكاتبة جعلت بطل قصتها يتقمص دورها.

        أحب أن أشير بأن الكاتبة هي رسامة القصة أيضا، لهذا فالعمل القصصي متكامل في ذهنها من حيث الرسم والمحتوى. طرحت القصة الكثير من المعلومات الجميلة للأطفال حول بعض العادات العمانية، بجانب أنها أشارت إلى بعض المعلومات المتناسبة مع الفئة العمرية وبشكل تلقائي حول الزراعة وطريقة الاهتمام بالنخيل و تأثير المناخ على الثمر.

        قصة "الخفي" للكاتبة المصرية أمل فرح من القصص التي كانت ضمن القائمة القصيرة في جائزة اتصالات لعام 2017. تعالج القصة موضوع الموت أو الفقدان بطريقة مختلفة. بداية غامضة تنقل الكاتبة قارئها الصغير من موقف إلى آخر حيث يصاحب "الغريب" أو "الخفي" أو "الحكيم الدقيق" أو "المرئي الخفي" كائنات حية مختلفة وينقلها إلى عالم آخر. تتناول الكاتبة الموت من زاوية مختلفة فهي لا تتكلم عن الحزن أو الفراق أو الشوق وإنما عن مفهوم ومعنى الرحيل أو الموت وكيف يحدث، فهي تنقل قارئها الصغير من موقف إلى أخر لتعريف الطفل بهذا المفهوم. حسب الدراسة التي أشرنا اليها سابقا فإن مفهوم الموت عند الأطفال يعني أن الأشياء الحية لابد لها من أن تموت،  وأن الموت يعني توقف أنشطة الجسم. تتناول قصة "الخفي" مفهوما متقدما عن الموت عما هو لدى الطفل وهو مفهوم وجود قوة خارجية خفية تقوم بعملية ترحيل الأحياء من هذا العالم إلى عالم آخر، فتنقل الكاتبة صورا لتلك العملية. فالوردة الجميلة ترحل مع ذلك "الغريب" لتصبح وردة ذابلة والدجاجة تترك صيصانها (كتاكيتها) الصغيرة و تصاحب ذلك "الحكيم" معترضة في البداية على تركها لهم ومستسلمة بعد ذلك لأمره. وهكذا في صور مختلفة يمر فيها "الخفي القوي" قرب نهر ويصطحب "المرئي الخفي" معه ذكر البط. ثم يواصل "الخفي" محاولاته في اصطحاب كائنات أخرى إلى أن يصل إلى البنت الصغيرة التي ترقد في المستشفى. تحاول الكاتبة أن توصل فكرة الموت عبر توقف جميع أنشطة الجسم عند الرحيل مع "الخفي". عمق فلسفي صاحب القصة ليكشف للقارئ مفهوم الموت عبر صور مختلفة ومن تلك الصور الأوصاف المتعددة التي أطلقت على "الخفي".

        بدأت الكاتبة قصتها "الخفي" بتعريف الطفل بمفردة "الخفي" في مقدمة القصة، حيث قالت في جملة تقريرية "الكل يعرف أنه موجود وأنه غريب وأنه عادي، إنه...." ما المقصود بـ "الكل"؟ ومن هو "الخفي".. هل هو الموت أو شيء آخر؟

        رغم جمالية لغة القصة إلا أن المشكلة الأساسية التي يمكن تلمسها في القصة هو صعوبة معرفة الفئة العمرية المستهدفة. قصة "الخفي" وظفت العديد من الأساليب الفنية في الكتابة القصصية الخاصة بأدب الكبار في قصة موجهة إلى الأطفال. ولعل ذلك اللبس في تقرير الفئة العمرية الموجهة لها أربك العمل الأدبي في عدة نواح:
        الناحية الاولى: استخدمت الكاتبة مفردات مختلفة لوصف "الخفي". واستخدام تلك الأوصاف المتنوعة في أدب الكبار قد يحسب للكاتبة كفكرة فنية جمالية. لكن ذلك يختلف في مجال أدب الأطفال. فمستوى التركيز عند الطفل يأخذ منحى ضيقا، كما أن ذخيرته اللغوية محدودة بالتالي يحتم على كاتب الأطفال أن يكون لديه الوضوح في اطلاق نفس التسمية على نفس الأمر من غير تغيير المسميات التي قد تؤثر على استيعاب وفهم الطفل لمحتوى القصة.

الناحية الثانية: طرح فكرة الموت من الأمور التي نحتاج إليها في أدب الطفل، إلا أنه من الصعب أن نخاطب الطفل بموته. فالكاتبة بدأت بداية جميلة في تقريب الفكرة عبر موت الورود والحيوانات ولكنها ختمت الفكرة بموت الطفلة الصغيرة في المستشفى حيث أخذها الغريب بعيدا عن والدتها. فالطفل القارئ يتقمص شخصيات القصة القريبة منه.

وأخيرا: من رحل مع الخفي ومن بقي؟ مسألة شائكة ظهرت بوضوح حينما رحل البعض مع الخفي دون توضيح، بينما بقي جسم البعض الآخر ورحل جزء منه. فمثلا مع بعض الكائنات الحية مثل الوردة: "سمعت الوردة كلام الغامض، وبهدوء رحلت معه"،  أم في حالة الدجاجة "تركت جسمها وريشها وعرفها ورحلت معه". وهكذا تجد عدم وجود ثبات من رحل ومن بقي؟ أو وجود عدم وضوح كما في حالة البط "فسقط جسم ذكر البط، لكن البط نفسه اختفى". تبقى تلك الاسئلة غير محلولة في ذهن الطفل وتربكه ولعلها لا تساعده على حل مخاوفه من الموت بل قد تزيد عليه.

        انتهجت الكاتبة لغة جميلة في طرح القصة ورؤية فلسفية تطرح عبرها فكرة الموت من زاوية مختلفة تماما والتي عبرت عنها بـ "الخفي" الذي يجعل الوردة تترك جذورها وتحلق الدجاجة عاليا معه ويختفي البط وأخيرا  يأخذ الخفي الصغيرة معه. فهل تتوافق هذه المفاهيم مع مستويات الأطفال الصغار؟
القصة الثالثة قصة "أشتاق.. أشتاق" للكاتبة ناهد الشوا. أشتاق هو شعور الطفل (بطل القصة) حيث يشعر بالاشتياق إلى والده الذي رحل عنهم. بجمل بسيطة.. قصيرة يخبر الطفل الصغير الذي لا يتعدى عمره الخامسة معاناته التي بدأت بموت والده. كانت معاناة شديدة حتى استطاع الطفل التعايش مع ألم الشوق والشعور بالفراغ.

يقول الطفل في بداية القصة: "رحل أبي.. عرفت أني لن أراه..." ويواصل الطفل مبديا ألمه "شعرت بحزن.. وجع عظيم أليم"  صار الفراغ وجعًا يكبر ويلاحق الطفل كما يعبر الطفل عن نفسه. ثم يظهر الطفل شعوره ووجعه الذي كان هو يحاول أن يهرب منه لكن الوجع كان يكبر ويكبر و يلاحقه. هذه الحالة من الألم التي أظهرت الكاتبةُ الطفلَ فيها ، تتناقض مع خصائص الطفولة. فالأطفال في سن الخامسة أو السادسة قادرون على إظهار الألم لفترة قصيرة وليس كما أظهرت القاصة في أنه يتأقلم مع الألم من شدته وطول مدته بحيث يأكلان معا ويذهبان إلى المدرسة معا. والنقطة الأخرى التي بينتها الكاتبة هو شعور الطفل بالفراغ. إلا ان ذلك الشعور لم يظهر في البداية وإنما ظهر في القصة فجأة. حبذا لو ركزت الكاتبة على شعور الطفل بالفراغ بدل الألم والوجع منذ البداية لجعلت مشكلة الطفل أكثر تناسبا مع خصائصه. انتهت القصة بطريقة جميلة تزرع الأمل عند الأطفال في أن كل تلك المعاناة تتلاشى بالتدريج.

        هناك عدد من الدراسات الغربية التي تناولت الموت في أدب الأطفال. الموت في أدب الأطفال ليس موضوعا حديثا وقد تم تناوله منذ الأربعينات من القرن الماضي. والعدد الحالي لقصص الأطفال في هذا المجال يتعدى حسب إحدى الدراسات 150 قصة. إلا أن عدد القصص في العالم العربي (حسب اطلاعي) لا يتعدى عدد أصابع اليد الواحدة. إنه تفاوت زمني كبير بين ظهور أدب الأطفال في العالم الغربي مقارنة له بالعالم العربي الذي يعتبر أدب الأطفال فيه حديث الولادة. وبسبب حداثة هذا الأدب فإن كُتاب أدب الأطفال في العالم العربي قد يكونوا معظمهم ممن لم تتح لهم فرصة دراسة خصائص الطفولة أو التعمق فيها. إن أهمية فهم ودراسة خصائص المرحلة العمرية للأطفال تعد من الأمور الأساسية التي تسهم في وضع البوصلة في مسارها الصحيح عند الكتابة للطفل. فلو تم مراعاة ذلك عند الكتابة للطفل العربي لشهدنا ازدهارا في الأدب الموجه للطفل وبمضامين متناسبة مع المرحلة العمرية للأطفال.