الأحد، 9 مارس 2014

أبلغ الكلمات هي تلك التي لم تُنطَق!

مد جسور التواصل ظاهرة إنسانية لها صور متعددة الأشكال في الحياة البشرية. وهذه الجسور متعددة الأشكال منها ما هو مادي ومحسوس ومنها ما هو لفظي ولغوي أو منها ما...



مد جسور التواصل ظاهرة إنسانية لها صور متعددة الأشكال في الحياة البشرية. وهذه الجسور متعددة الأشكال منها ما هو مادي ومحسوس ومنها ما هو لفظي ولغوي أو منها ما هو غير لفظي. فكما أن الإنسان اخترع لغة التواصل اللفظي فإنه أقام أيضا الجسور لإزالة الحواجز التي تعيق ذلك التواصل الإنساني في التنقل والترحال! وكلاهما الجسور الإنسانية المتمثلة في اللغة أو الجسور المادية المعروفة بالجسور والأنفاق كانت من الأمور الأساسية التي توَجَّهَ الإنسان إلى بنائها. فمنذ القدم اخترع الإنسان لغة التواصل التي أسهمت في تطور الفكر الإنساني، ويقال أن هناك أكثر من 7000 لغة في العالم. هذا الاختراع الإنساني تطور بتطور المعرفة البشرية ومع تقدم العقل البشري وجد في الجسور والأنفاق سبيلا آخر من سبل تأكيد عملية التواصل الإنساني. و يقال بأن جسر (Ponte Fabricio) هو أقدم جسر تم بناؤه في روما والذي مازال قائما على هيأته الأصلية منذ أن بني عام 62 قبل الميلاد. ساهمت عملية التواصل البشري في ارتقاء الإنسانية العلمي واطلاعها المعرفي الذي امتد تواصله منذ الثلث الثالث من القرن الماضي إلى خارج الكرة الارضية بعد أن اخترع أسلوب التخاطب المعرفي المتمثل بلغات البرمجة.

تعبير الإنسان عن أفكاره وآرائه ظاهرة إنسانية لا تقتصر على الإنسان القادر على النطق والاستماع فحسب، وإنما امتدت إلى الإنسان الآخر الذي حُرم من حاسة السمع وبالتالي من حاسة النطق بحيث أصبح هو أيضا قادرا على التعبير عن أفكاره وآرائه. فكانت لغة الإشارة من أعظم النعم التي حبا الله بها الصم والبكم. كنت أستمع إلى الأخ سلطان المعمري في حفل توزيع جوائز جريدة الرؤية الإقتصادية، كما استمعَ إليه غيري من المدعوين في القاعة بإنصات، رغم أنه خاطبنا بلغة الإشارة. أنصتنا جميعا مستخدمين حاستين من حواسنا: البصر والسمع. فحاسة البصر استخدمت لمتابعة إشارات الأخ سلطان، وحاسة السمع استخدمت لفهم ترجمة إشاراته. بين هاتين الحاستين كان الفكر يعمل دؤوبا لربط الإشارات بالكلمات أحيانا وأحيانا أخرى للغوص في عمق أحاسيس شخص نتشابه معه في الكثير ونختلف معه في الكثير أيضا. حينما كان سلطان يتحدث والقاعة منصتة بجوارحها المختلفة كانت هناك كلمات تحاول أن تجد لها مرادفات في واقعنا. ومما أشار اليه سلطان في حديثه الصامت: “نحن مثلكم نحب أن نشارككم إلا أنكم لم تبنوا جسرا بسيطا يحملكم إلى عالمنا! أنتم تستخدمون الإشارات لكن.. هناك حاجة إلى ترميمها قليلا لتكون مهيأة لحملكم إلى عالمنا بأمان..”. لكننا، مع الأسف وكما أشار الأخ سلطان، لم نبذل أي جهد لبناء جسور التواصل مع فئة من البشر يشاركوننا حياتنا وعالمنا.

قبل عدة أعوام كنت استمع إلى أحد المحاضرات حينما قال المحاضر الأجنبي: إنه وقع في حب فتاة صماء، إلا أن الأمر انتهى به إلى أن تزوج لغتها! لعل زواجه من لغة تلك الفتاة كان ولوجا له إلى عالم آخر عميق بالمشاعر والمعارف لا يفقه كينونته من لم يلج فيه. إنه مثل ذلك الكتاب الذي لا نعرف ما قد يفرده لنا اذا لم نبادر إلى قراءته! قبل عدة أعوام أيضا كانت لدي رغبة ملحة في تعريف الناس بلغة الإشارة وتَعَلُّمِها. فخططت لمبادرة وكانت جميع أركان المبادرة جاهزة مع إعلان جميل يقول: “اللغة هي أسلوب التواصل بين البشر .. ويتخذ التواصل أكثر من أسلوب. فمنا من يتواصل عن طريق الكتابة أو التقنيات الحديثة، ومنا من يتواصل من خلال لغة الإشارة. وهؤلاء معنا وبيننا ولكنهم يعيشون في عالم من الصمت.. إنهم أبناؤنا وبناتنا .. إخواننا وأخواتنا.. لكننا نفتقد الاسلوب الذي نتواصل به معهم..  وينقصنا الفهم لمعرفة عالمهم الصامت. في هذه الورشة ندعوكم لكسر الحاجز والولوج في عالم الصمت من خلال معرفة لغتهم وفهم غوامض عالمهم وأبجديتهم والكثير مما يحيط بهم من مفاهيم.”

لكن.. مع الأسف، فإن قلة الموارد الماليه أطبقت على الدورة فصمتنا، لنوجد بذلك عالما آخر من الصمت الذي يقضي على مبادرات صوت الفكر والحب والإخاء. هذه دعوة إلى إحياء تلك الأصوات لأنها ستبني جسورا للتواصل. إن دعوة سلطان المعمري للولوج في عالم الصمت من خلال مبادرات مختلفة لإقامة جسور التواصل تتطلب منا وقفة لنقيم الكثير من مفردات حياتنا.. ونعيد النظر!