الأربعاء، 5 مارس 2014

الثقافة بين مطارق التجويف وسندان التقييم!

مع الوعي والثقافة والعلم تتغير اتجاهات الإنسان وميوله. وبسبب توفر الكتب والقدرة الشرائية والرغبة في القراءة، فإنّ الإنسان يتّجه نحو المربع الذي يحقق له السعادة والبهجة. لله الحمد، ...



مع الوعي والثقافة والعلم تتغير اتجاهات الإنسان وميوله. وبسبب توفر الكتب والقدرة الشرائية والرغبة في القراءة، فإنّ الإنسان يتّجه نحو المربع الذي يحقق له السعادة والبهجة. لله الحمد، فإنّ ظاهرة الاحتفاء بالكتب وشرائها وتداولها أصبحت تتصاعد مع انبثاق الوعي وحرص الأهل وتوجه المجتمعات نحو غرس ثقافة القراءة. وبطبيعة الحال فإنّ من يقرأ يصبح لديه الكثير ليقوله ويشارك الآخرين بأفكاره ورؤاه وخواطره. من هنا، فإننا نلاحظ أنّ الكثير من الشباب والشابات توجهوا نحو الكتابة في الصحف والمجلات! ومما تشكر عليه المظلات الثقافية في سلطنة عمان أنها فتحت مجالاً كبيرًا لدعم عملية نشر إنتاجات العمانيين وبعض الوافدين أيضًا. وهذا السخاء في نشر إنتاجات الكتاب مع مكافأة مالية هو ما يطمح إليه الكاتب في خضم ما يشهده من صعوبة في النشر خارج السلطنة.

النشر خارج السلطنة له عدد من الوجوه منها على سبيل المثال: أن يتم تبني العمل من قبل إحدى دور النشر مع إعطاء الكاتب نسبة صغيرة من الأرباح، أو أن يساهم الكاتب في طباعة الكتاب مقابل نسبة صغيرة من النسخ المطبوعة من الكتاب تقوم الدار ببيعها لحسابه الخاص، أو يتكفل المؤلف بالمبلغ بأكمله وفي المقابل يحصل على نسبة أكبر من النسخ المطبوعة وتأخذ الدار النسبة الأخرى وتقوم بتسويقها لحسابها الخاص. هذه بعض صور التعاملات مع دور النشر خارج السلطنة. وفي جميع تلك الصور فإنّ دار النشر تحصد الكثير من الأرباح خاصة حينما يتحمل الكاتب تكلفة طباعة الكتاب. هذه الصور لا أعرف إن كانت خاصة بالكاتب الخليجي أم لا، إلا أنّ للكاتب الخليجي حسابات خاصة في الكثير من التعاملات التجارية!

الواقع العالمي في عملية النشر يختلف كثيرًا عن الواقع العربي في عدد من الأمور منها على سبيل المثال التخصصية. ما أعنيه بالتخصصية أن دور النشر العالمية متخصصة بشكل دقيق في عملية النشر. فبعض الدور متخصصة مثلاً في نشر روايات أو كتب بوليسية أو كتب علمية أو كتب الأطفال (كما هو حال بعض دور النشر في الوطن العربي) إلا أنّ لهذه التخصصات فروعًا أضيق فمثلا، الدور المتخصصة في نشر كتب الأطفال تنقسم إلى تلك التي تنشر الكتب الدينية للأطفال أو الكتب العلمية أو الخيالية أو كتب الثقافات والإثنيات المختلفة. الأمر الآخر الذي تختلف فيه دور النشر العالمية عن العربية هو أنّ عملية التقييم تتخذ منحى صارما جدًا تميَّزُ من خلاله الغث من الثمين. فالكتاب لا يتم اختياره للنشر من قبل الدور العالمية إلا بعد مراجعة دقيقة لموضوعه وتلمس إبداع الكاتب فيه. هذا بالنسبة لدور النشر التي لا تتقاضى من المؤلف أية مبالغ بل هي التي تدفع له نسبة من الأرباح. أما دور النشر التي تسمى self-publishing وهي المعنية بنشر الكتاب مقابل أن يتحمل الكاتب تغطية جميع المبالغ المتعلقة بالطباعة مقابل حصول الكاتب على نسبة بسيطة من الأرباح فعملية التمييز بين الجيد والرديء غير صارمة حيث يترك الأمر للقراء. والقارئ الغربي أكثر وعيًا وقدرة على التمييز بين ما يُنشر. إلا أنّ هذا النوع من النشر لا يعتبر شائعاً في العالم الغربي. ولحسن الحظ فإنّ الكاتب العماني (ولله الحمد) تعددت أمامه طرق نشر كتاباته سواء عن طريق النشر الذاتي أو من خلال مختلف المؤسسات الثقافية. وأمام هذه الصورة الجميلة الميسرة للكاتب العماني لنشر إنتاجه، ألا يحق لنا أن نسأل عن مستوى الإنتاج ومعايير التقييم؟

إنّ عملية التقييم والصرامة في الاختيار وبالتالي الاقتصار على نشر ما هو مُتميّز فقط ستنعكس إيجابيًا على الكاتب والقارئ والمجتمع. ففي مجتمع يتنافس فيه الكُتاب لوضع بصماتهم على الساحة الثقافية، فإنّ عملية التقييم الصارمة تساعد الكَاتب على التقدم نحو الأفضل والأكثر إبداعا. وفي بيئة يتميز فيها الكتاب بأسلوبه وفكره ورقيه فإنّه يساهم في نفس الوقت في رفع الذوق العام. وفي مجتمع تتوالد فيه إبداعات وفنون راقية ترقى فيه التطلعات والطموحات. لكن.. مع الأسف، هذا النوع من الصور التقييمية للأعمال المنشورة لا نشهد له بعدًا حقيقيًا في واقعنا العربي بشكل عام. فمستوى بعض الكتابات لا يرقى إلى مستوى النشر، ناهيك عن الاغترار الذي نعيشه بسبب المُسميات المختلفة التي صُنعت لها هالات برّاقة، بحيث أصبحت بعض الأعمال مستثناة من أي نقد. قبل عدة أيام وقع في يدي كتاب شعر طبع حديثًا. وحينما تصفحت أوراقه أُصبت بذهول. إنّها "ظاهرة غريبة" وحتى وإن قيل إنّها "ظاهرة فنية" سأقول إنها تكشف عن سطحية الكاتب والناشر. ما هي الرسائل التي نبثها بنشر خمس كلمات لا أكثر (يقال إنه شعر) موزعة على صفحتين من الحجم المتوسط؟ لماذا نرغب أن يصرف النّاس أموالهم في شراء كتب بهذا المستوى؟ ولكن.. قد أكون جاهلة في الشعر أو أن دواوين لشعراء عمالقة كدرويش وأبي ماضي وغيرهما التي أعشق قراءتها لا تمثل "الحداثة". فسألت شاعرًا عن مغزى هذه الكلمات الخمس أو أحيانًا العشر الموزعة بين صفحتين كاملتين، فوضع الكتاب جانبًا، وقال: لا أفهم!

أتساءل: هل هذه الكُتب خضعت للتقييم؟ ومن قيّمها أم أنّ اسم الكاتب أو الشاعر يكفي لجعلنا نبصم على صلاحية الكتاب؟ وهل كتبت ليفهمها النّاس ولها رسالة ثقافية أو أدبية؟ ولماذا تنشر كتبٌ معانيها في بطن الشاعر ولا يفهمها القارئ؟

كنت أتساءل عن سبب عدم ثقة شريحة من العمانيين بمؤلفات الكُتّاب العمانيين، إلا أنّ هذه التجربة وغيرها جعلتني أدرك أننا سوف نكون أمام انحدار بمستوى الإنتاج العماني إن استمر الوضع على هذا الأسلوب. وهذا الانحدار أمام هذا التوسع والانفتاح على العالم العربي والغربي هو الذي سيدفع أبناءنا إلى الابتعاد عن الثقافة المحلية وزعزعة الثقة بالمنتج الثقافي والأدبي العماني.

هناك عدد من العوامل تسهم في هذا الضعف الثقافي وتكاد تكون عامة بين الدول العربية. بعض تلك العوامل ناتجة من الشللية التي تطبل وتزمر لإنتاجات البعض وتتجاهل إنتاجات البعض الآخر! وهذه الظاهرة غدت واضحة وصريحة حيث يتم تداول الكثير من تلك الأفكار في منتديات التواصل الاجتماعي. ومما وصلني: "الجيل الجديد من الأدباء أكثر جرأة على نسف تجارب أسلافهم والعبث بالنظام اللغوي وخدش ما يسمى بالمقدسات...ولكنهم أجبن من أن يبدون رأيهم في نص لأحد أصدقائهم..".

مهلاً، فالقارئ العماني لم يعد قارئًا ساذجًا، فلقد غدا ناقدًا جيدًا. وأبناؤنا الذين بدؤوا يطلعون على مختلف الثقافات أضحوا يستوعبون الأسس الفنية ولا تغرهم المسميات أو التأثر بالإعلام الشللي. الثقافة بين خيارين: مطارق التجويف وسندان التقييم. ومن أجل ضمان مستوى الكتاب العماني فسندان التقييم سوف يُؤتي أكله ولو بعد حين! إننا بحاجة إلى صدق وإخلاص بعيدين عن التأثيرات الآنية وبالتالي لابد.. من إعادة النظر!