الجمعة، 23 أكتوبر 2015

كربلاء ومعاني الحرية والعبودية


وبين حرية الفكر وعبوديته تتمازج المفردات وتتراكم المفاهيم. فالعبد من قيدته عبودية الفكر والحر من تحرر من عبودية الفكر ليرقى بوجدانه على المسميات الإجتماعية. وبين هذا و ذاك فكر متحرر. بين الحرية والعبودية الحقيقية سحب كثيفة تنحل فيها ألوان...



ساحة كربلاء تجلت كمصباح يضيئ مفردات تحررت معانيها من أسر النظريات لتواجه الواقع بنماذج براقة شعت فريدة، فتجلت فرادتُها علواً وشموخا، حياة وإباء. لقد نبضت تلك المعاني حرة في ضمائر ارتوت من معين الإباء بعد أن حُجب عنها ماءُ الفرات. فكانت بعذوبتها المغروسة بها تروي ضمائر حرة. و تشكلت تجليات الحرية أنوارا في الوجدان و غَرَساتٍ تتبلور في الأذهان والأفهام. إنها انعتاق النفس والروح.. فالحر حر الفكر والنفس، والعبد عبد الفكر والنفس!

وبين حرية الفكر وعبوديته تتمازج المفردات وتتراكم المفاهيم. فالعبد من قيدته عبودية الفكر والحر من تحرر من عبودية الفكر ليرقى بوجدانه على المسميات الإجتماعية. وبين هذا و ذاك فكر متحرر. بين الحرية والعبودية الحقيقية سحب كثيفة تنحل فيها ألوان فيغدو المملوك سيدا هصورا و المالك عبدا ذليلا. ـيغدو فيه المولى سيدا ذا شأن و السيد ذليلا تناوشه الأوهام. إنها عبودية الفكر التي تجعل العزيز ذليلا والذليل عزيزا! في كربلاء حيث وقف الحسين ليلة العاشر من محرم  قائلا: "ألا واني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً وإني قد أذِنت لكم فانطلقوا جميعا في حِلٍ ليس عليكم مني ذِمام، وهذا الليلُ قد غشِيَكم فاتَّخِذوهُ جَمَلا، ولْيأخذْ كلُّ رجل منكم بِيَد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعا خيرا! .."

في تلك الليلة المظلمة حينما خير الحسين عليه السلام أصحابه بين البقاء والرحيل، بل حثهم على الرحيل، كانت المفردات الحية تنخل للمرة الأخيرة من بين تلك التي أماتها القحط رغم جداول الأنهار المحيطة، فتبرز وتتصدر تلك التي ازدانت بأيقونة الحياة و نفحات الحرية أمام تلك التي تكبلت بأصفاد العبودية. صورٌ تعددت وكلها تحكي عن ذلك الخيط الفاصل بين الحرية و العبودية.  فيكسب الحر بن يزيد الرياحي -أحد القواد البارزين في حيش يزيد- جنَّتَه، بينما يخسر فيها عمر بن سعد -قائد حيش يزيد- تلك الصفقة. فيؤبن الإمام حرا حينما سقط شهيدا بين يديه قائلا: "أنت الحر كما سمتك أمك، وأنت الحر في الدنيا و الآخرة". أما عمر بن سعد فيخير نفسه: أأتركُ ملْكَ الرَّيِّ و الري مُنْيَتي أم أرجعُ مأثوما بقتل حسين. فيختار العبودية!

القرار الحر أو قرار العبودية هو الذي ميز بين احرار الفكر والنفس وبين عباد الفكر والجسد من خفافيش الليل. فأصحاب القرار الحر تميزت مواقفهم بالثبات فكان ردهم الإيماني على إذن الإمام الحسين عليه السلام بالرحيل ينطلق من فكر حر و قرار حر ووجدان حر.  فيقف مسلم ين عوسجة متوجها نحو الإمام بوعي و بصيرة وهو يقول: أنحنُ نُخَلِّي عنك؟، وبماذا نعتذر إلى الله في أداء حق؟، أما والله لا أفارقك حتى أَطعنَ في صدورهم برمحي و أَضرِب بسيفي ما ثبت به قائمه بيدي.." هذه الكلمات كانت صدى لكلمات أخرى ولدت في ضمائر الأحرار ليلة عاشوراء ترانيم تصدح في دنيا العبودية. فقال سعيد ين عبدالله الحنفي: "والله لا نخليك حتى يعلم الله أنَّا قد حفِظنا غَيْبةَ رسوله فيك، أما والله لو علمت أني أُقتل ثم أُحيا ثم أُحرَقُ حَيا ثم أُذْرَى.." إنه الوعي بمنطلقات ثورة أبي الأحرار التي حررت الأنفس الحرة.. إنها لحظة القرار!

وهناك حيث القرار الحر كانت قرارات أخرى في الجهة المقابلة لمن كانت أجسادهم متحررة و لكن نفوسهم وأفكارهم مصفدة بالعبودية  فانسلوا مثل خفافيش الليل في جنح ظلامه هربا من الحرية و الانعتاق الروحي الذي صدح به أبو الأحرار: " وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما.."

ذلك الانعتاق الروحي لم يكن مقتصرا على سادة و علية القوم، فقد كان هناك ثلة مؤمنة عاشت تحت رحمة سادة أحرار فورثت منهم الحرية فكرا وفهما وفعلا. يذكرهم التاريخ على استحياء لأن مفاهيم العبودية التي تشكلت على أذهان عبدة الدنيا و المال لم ترَ فيهم سوى "موالي". شارك ستة من الموالي من غير الموالي التابعين لأهل بيت النبوة في ثورة الحسين عليه السلام وهم "جون مولى أبي ذر الغفاري وزاهر مولى عمرو بن الحمق الخزاعي و سالم مولى بني المدينة الكلبي وسالم مولى عامر العبدي وسعد بن عبدالله مولى عمرو بن خالد الأزدي شوذب مولى شاكر بن عبدالله الهمداني الشاكري" تحرروا رغم ألوانهم من عتق العبودية. هؤلاء الأحرار كانوا في حل من نصرة الإمام الحسين. شَوْذَب مولى شاكر كان شيخا كبيرا مولى من عرب الجنوب أقبل نحوه عابس الشاكري سائلا:  يا شوذب ما في نفسك تصنع؟ قال: أقاتل معك حتى أُقتَل فجزَّاهُ خيرا. فقال له عابس: تقدم بين يديْ أبي عبدالله حتى يحتسِبَك كما احْتسبَ غيرَك فإن هذا يوم نطلب فيه الأجرَ بكل ما نقدر عليه". تلك هي الحرية التي تتحلل أمامها المراتب و المسميات فيتقدم المولى الحر ليفتدي ابن بنت رسول الله. وها هو لسان حال جون مولى أبي ذر يصدح بكلمات لا يفهمها إلا الأحرار الأعزاء في وقفته أمام الحسين عليه السلام مستأذنا إياه للقتال، فقال له الحسين: "يا جون إنما تبعتنا طلبا للعافية فأنت في إذنٍ مني! فوقع على قدَمَيِ الإمام يُقَبِّلُهُما ويقول: أنا في الرخاء ألْحَسُ قِصَاعَكم، وفي الشدة أخذلكم، إن ريحي لنتن و حَسَبي للئيم و لوني لأسود فتنفس عليَّ بالجنةـ ليطيب ريحي و يشرُفَ حسَبي و يبيَضَّ لوني، لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم!" حينها أذن له الإمام فانطلق حر الفكر والنفس بطلا وهو يرتجز ويقول:

كيف تَرى الفُجّارُ ضَربَ الأسْودِ
بالمـشـرفـيِّ القـاطعِ المُـهنَّدِ
أحمـي الخيـارَ مِن بنـي محمّدِ
أذُبُّ عنـهم بـاللـسـانِ واليـدِ
أرجو بذاك الفـوزَ عندَ المـوردِ
مِـن الإلهِ الـواحدِ المـوحَّدِ

وحينما قتل وقف الإمام الحسين (ع) على رأسه وقال: "اللهم بيض وجهه و طيب ريحه و احشره مع محمد (ص) وعرف بينه و بين آل محمد (ص)". بهذه الكلمات الرائعة أبَّنَه الإمام الحسين عليه السلام.

"واللهِ لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أَفر فرار العبيد" كان ذلك شعار أبي الأحرار الذي ما فتئ يخلق نماذج حية تمد البشرية و الوجود بأيقونات تضيء لياليهم الظلماء و تحيي نفوسهم الميتة و تعتق أرواحهم المستعبدة.. فكانت تلك الدماء الحرة التي أراد لها أن تسقي الأرض الجرداء كي تحيا وتمد الوجود بنفحات حرة خالدة تتجد كلما وأَدَهَا الزمان.. فكانت ثورات الحرية ضد الظلم و الطغيان تستمد صمودها و مسيرتها و إباءها من ثورة أبي الأحرار. إنه الحسين بن علي حفيد رسول الله وابن فاطمة الزهراء. استقى الحرية من معين جده و كان هو الأولى أن يرسي متاريسها حين أصاب الأرضَ الجدبُ والقحطُ فقام مجدِّدا لدين جده.. "إني لم أخرج أشِرا أو بطرا و إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة محمد. أريد أن آمر بالمعروف و أنهي عن المنكر و أسير بسيرة جدي المصطفى.." فسلام عليك و على الأحرار الذين رافقوك في مسيرتك لطلب الإصلاح. و سلام على تلك النفوس الطاهرة التي تحررت من رق العبودية لتنير معاني الحرية. السَّلامُ عـَلَيـْكَ يا وارِثَ آدَمَ صـَفـُوةِ اللهِ السَّلامُ عـَلَيْكَ يا وارِثَ نـوُحٍ نَبــِيِ اللهِ السَّلامُ عـَلَيـْكَ يـا وارِثَ إبـراهيـمَ خـَليـلِ اللهِ السَّلامُ عـَلَيـْكَ يا وارِثَ موســى كـَليِم اللهِ السَّلامُ عـَلَيـْكَ يـا وارِثَ عـيـسى روُحِ الله السَّلامُ عـَلَيْكَ يا وارِثَ مـُحـَمـّدٍ حـَبـيبِ اللهِ خَيْرِ خَلْقِ اللهِ وَسَيِّدِ خَلْقِهِ ورحمة الله وبركاته!