الأحد، 29 مارس 2015

«عندما يضحك الأسْوَد» للسوري مهند العاقوص

«عندما يضحك الأسْوَد» عنوان مثير وقوي لرواية تشد القارئ في جملتها الأولى: «في الليلة التي سبقت الكارثة…» ليتساءل القارئ: أي كارثة؟ إنه عالم من الخيال، يخيل إليك بأنك ستعيش أحداث رواية تأخذك إلى الفضاء...

 

 
قبل عدة أعوام طُلِب مني المشاركة في ورشة عمل موجهة للطلبة اليافعين كانت سلطنة عمان قد استضافتهم من دول عدة منها على ما أتذكر مصر وسوريا  ولبنان والأردن وغيرها. وحيث أنني كنت على علم بالفقر الذي تعاني منه الساحة الأدبية في مجال أدب اليافعين والناشئة،  فقد سألت أولئك الفتية والفتيات: ماذا تقرؤون؟ تنوعت إجاباتهم، إلا أن معظم الإجابات أشارت الى كتب بلغات أجنبية. وقد ذكروا بأن السبب لذلك هو عدم توفر قصص أو كتب باللغة العربية موجهة لمن هم في أعمارهم.
أدب الناشئة هو أدب حديث في عالمنا العربي. وهو يعاني عددا من التحديات من أهمها 1) إن اليافعين أو الناشئة في العالم العربي بشكل عام يتقنون أكثر من لغة. و هذه المعرفة أمدتهم بمادة قرائية من تجارب حضارات و ثقافات أخرى. كما جعلت من الفتى اليافع في العالم العربي قادرا على المقارنة و التذوق وبالتالي الحكم على النص على خلاف الطفل العربي من الفئة العمرية الأصغر الذي تنحصر قراءته على فهم و ذوق الأهل والمعلمين. 2) أدب الناشئة في الوطن العربي أدب حديث مقارنة بأدب الكبار كالروايات والقصص الموجهة للراشدين الذي قطع أشواطا كبيرة و تأثر بالأدب الغربي وتطور بشكل ملحوظ، بينما ظلت تقنيات أدب الناشئة وسوقه ضعيفة. 3) كون أدب الناشئة أو الفتيان اليافعين أدب حديث، فإنه مازال بعيدا عن التخصصية. فكاتب أدب الأطفال للفئة العمرية الأصغر هو الذي انبرى (بشكل عام) للكتابة في أدب اليافعين إلا ما ندر. 4) أخيرا، فإن أدب اليافعين أو أدب الأطفال في العالم العربي بشكل عام يفتقد إلى المقومات التي تسهم في رفع شأنه ونموه مثل المؤتمرات و ورش العمل التخصصية المنظمة بالإضافة إلى غياب الدراسات النقدية التي تتناول ذلك الأدب بالتمحيص والنقد والتقييم.
هذه التحديات التي تواجه أدب الفتيان اليافعين، تجعلنا نثمن جهود الكتاب و محاولاتهم ولكننا في الوقت ذاته نستحثهم إلى تشجيع النقاد لتناول هذا الأدب بالدراسة والنقد، لإن عملية النقد تسهم في رقي الأدب وتطوره. لكن، في عالمنا العربي (ومع الأسف الشديد) يواجه الناقد –غالبا- بكيل من التهم وبالتالي يُجحَف حقُّه. وسبب ذلك يعود إلى عدم إدراك الكاتب بأن النص بعد نشره وطبعه لا يعود ملكا للكاتب،  وإنما هو ملك عام يحق لأي قارئ أو ناقد أن يتناوله بالفحص والنقد والتقييم. وقد يكون الكاتب معذورا على موقفه لاعتقاده جهلا بأن العملية النقدية قد تؤثر على سمعته او سمعة كتابه، الأمر الذي  يجعله وجلا وخائفا من أي نقد، بينما جوهر العملية النقدية هو السمو بالأدب والأديب. وقد أدرك الكاتب مهند العاقوص هذه النقاط  فبادرني بنفسه طالبا مني أن أنقد كتابه (عندما يضحك الأسْوَد) ومنتظرا  بروحه السمحة "جلاد الناقد" (كما عبر).
"عندما يضحك الأسْوَد" عنوان مثير وقوي لرواية تشد القارئ في جملتها الأولى: "في الليلة التي سبقت الكارثة..." ليتساءل القارئ: أية كارثة؟ إنه عالم من الخيال، يخيل إليك بأنك ستعيش أحداث رواية تأخذك إلى الفضاء.. إلى المريخ ليصبحا مسرحا لها، واذا بك تنزل مع تلك الكرة المضيئة التي تسبح بك إلى الأرض.. من موقع إلى آخر،  بينما الأشكال والألوان تحيط بك في صور مختلفة تمزج الحلم بالواقع. فالعيون الخضراء المزهرة التي تتناغم مع الألوان وتنافس أنغام اللون الربيعي تجعلك تتوجس! والأشكال الهندسية التي تتضارب في حرب ضروس لتغزو العينين "الخضراوتين، كما يغزو سرب جراد جائع بستاناً أخضر"  تشعرك بالخطر القادم!
بداية موفقة وخطوات متأنية تأخذك في تفاصيل دقيقة عن ذلك الفتى اليافع الذي أحب الكرة و دفع ثمنها عينيه الخضراوتين. إلا أن تلك الدقة في طرح التفاصيل عن حياة بطل القصة تقتصر على الصفحات الأولى ولا تتواصل أو تتعمق في شخصية بطل "الرواية".  حينما سقط بطل القصة في الصفحة السادسة، بدأ عالم جديد من الأحداث لكنه عالم متسارع لا يهتم بأن يصف لك ما يحوط و يجول حول بطل القصة إلا القليل. يأخذك أحيانا عبر مشاعره و أفكاره لكنه يتجاهل بعض التفاصيل المهمة عن البطل لتتمكن من أن تعيش معه وتتعرف عليه عن كثب فإذا بك تدرك أنك تجهل حتى صفه الدراسي أو مكان المدرسة التي يذهب إليها أو الحارة التي يعيش فيها. و قد لا تكون معرفة هذه المتغيرات ذات أهمية في بعض القصص لكنها في "عندما يضحك الأسْوَد" مهمة جدا لأنها الطريق اليومي الذي يسلكه بطل القصة و هناك الملاعب التي يلعب فيها. تتساءل و أنت تقرأ: في أي صف هو يا ترى؟ هذا السؤال الذي لم أعرف اجابته إلا في نهاية القصة.  لقد كان يمثل محورا أساسيا حينما تطرق الكاتب إلى علاقات الحب و أشار الى الزواج و أيضا الى علاقة والدي نورالدين! جميع تلك الأحداث طرحت أمامي تساؤلا حول تناسب القصة مع الفئة العمرية!
كنت أتمنى لو يتجمد الزمن أمامي لأتلمس مسار الكرة التي اقـتـنصت عيني الفتى (نور الدين) لكنها تحركت من غير أن تجعل للحظة القادمة أية أهمية. لم تتحرك كالكرة المضيئة التي سبحت بين الأشكال والألوان،  وإنما كانت حركتها سريعة خالية من أية إثارة للقارئ لتجعله متوجسا من القادم. كنت انتظر من الكاتب أن يحركها في خط زمني يقاس بالثواني، يجسد الملعب كفيلم سينمائي أمام القارئ تجعله يلعب مع الكرة.. يركلها.. يركض خلفها.. يتنافس مع الآخرين أحيانا.. ويتسابق أحيانا أخرى قبل أن يقذفها نور الدين برأسه. كنت انتظر من الكاتب أن يدخل في التفاصيل بروية شارحا وواصفا و ليس فقط ناقلا بأسلوب تقريري كما ورد في الجملة التالية وغيرها من الجمل: "حاول استفزازي ببعص الكلمات ومضايقة جسدي النحيل ببعض الضربات من كتفه العملاق..". وهكذا نجد الكاتب استسهل الأسلوب التقريري ومستبعدا الوصف في عرض افعال البطل و الدقة في تقديم تفاصيل كافية.
"عندما يضحك الأسْوَد" هل هي رواية أم قصه أم سيرة ذاتية؟
يشير غلاف "عندما يضحك الأسْوَد" بأنها رواية.. لكن هل هي فعلا رواية؟
هناك عدد من التصانيف للكتابات الأدبية، و الاختلاف بين هذه التصانيف تتركز عند معظم المهتمين بالشأن الأدبي وفق معايير خاصة بالكم و النوع و أسلوب الطرح. فالرواية "نص أدبي سردي، وهي أوسع من القصة في أحداثها، وشخصياتها، ويمتد فيها الزمن، وتتعدد العُقَد. وهي أشبه ما تكون بقصص متعددة متشابكة في نص واحد تتناول عددا من الحوادث" أما القصة فهي "نص أدبي يسرد فيه الكاتب أحداثًا معينة، تجري بين شخصين أو عدد من الأشخاص". والقصة "تتحدث عن جزئية أو حدث محدد زمانيا ومكانيا من حياة شخص". و هناك نوع آخر أيضا من أنواع الأدب السردي وهي السيرة الذاتية. و السيرة الذاتية تنقسم الى نوعين وهما: السيرة الذاتية التي يكتبها المؤلف عن نفسه (autobiography)، والسيرة الذاتية التي يكتبها الآخرون عن شخصية ما (biography). وكلاهما يتناولان الحديث عن حياة شخص ما ومعاناته أو نجاحاته والمعوقات التي واجهته.
 على غلاف "عندما يضحك الأسود" وضعت كلمة "رواية". وحينما قرأتها تساءلت هل هي سيرة ذاتية للمؤلف أو لأحد من معارفه أو أن المؤلف أرادها قصة لليافعين.. و هل هي فعلا رواية؟
من وجهة نظري أنه "عندما يضحك الأسْوَد" ليست رواية لأنها من الحجم المتوسط أو الصغير في 36 صفحة تدور أحداثها حول قصة الفتى (نور الدين) الذي عانى من فقدان البصر. إن أحداث القصة تمحورت حول شخصية واحدة و لم تأخذ لها أبعادا أخرى. فجميع الأحداث التي دارت في القصة كانت حول كيفية تغلب الفتى (نور الدين) على إعاقته. إلا أنني كنت أجدها أقرب إلى السيرة الذاتية منها إلى قصة فضلا عن الرواية.. لماذا؟
 
حسب معرفتي بأدب اليافعين وخصائصهم فإن هؤلاء الفتية لهم اهتمامات معينة ضمن نطاق أضيق من اهتمامات الأشخاص الكبار. فحينما يكتب الأدب لليافع فإن كل ما يهمه هو ما حدث ضمن ذلك النطاق الزمني. و كيف تغلب البطل على معوقاته. أما أكثر من ذلك فهو من اهتمام الكبار. صحيح أن هناك بعض السلاسل الأدبية القصصية الموجهة للفتية تتعرض إلى أكثر من ذلك إلا أن الاختلاف هو في جوهر المشكلة وزمن طرحها وأسلوب طرحها. ففي "عندما يضحك الأسْوَد" فإن القارئ اليافع يكتفي بمعرفة كيف تغلب الفتى -الذي هو في مثل سنه- على إعاقته، و كيف واصل دراسته المدرسية و كيف.. وكيف؟؟ لكنه لا يعنيه كثيرا من تزوج و ماذا أنجب و من كانت الدكتورة التي ولدت زوجته؟ هذه التفاصيل تطرح في السير الذاتية للأفراد أو قد تطرح في الروايات الموجهة للكبار ضمن حبكات روائية متعددة. وهذا ماجعلني أظن أنها سيرة ذاتية. وهذه التفاصيل هي التي حسب ظني نزعت بالكاتب الى اختصار الكثير من الأحداث التي كنت أتمنى ان أعرفها مثل: كيف تغلب على إعاقته في مدرسته رغم عدم وجود الوسائل التي تخدم فاقدي البصر؟ وهل فقد بتلك الضربة كلتي عينيه أم عينا واحدة؟ وكيف كانت مساعدة زملائه له؟ وما هي الرسومات الكاريكاتورية التي عرضت في المعرض الذي أقامه والده؟ وكيف تعلم العزف وكيف وكيف والكثير من الاسئلة التي كنت أبحث لها عن اجابات و أنا أقرأ القصة و التي لم يرى الكاتب أهمية ايرادها لكنها تشكل أساسا جوهريا في عرض معاناة شاب فقد بصره.
واحدة من التحديات التي يواجهها الأدب بشكل عام هو التقصير في عملية التصحيح اللغوي و الإملائي، لأن تأثير ذلك على لغة الطفل كبير جدا خصوصا في خضم الإهمال الذي تعانيه اللغة العربية بوجه عام.
أخيرا، أن القدرات اللغوية والاستعارات المجازية و المعلومات العامة للكاتب الشاب مهند العاقوص أهلته أن يتناول معاناة فاقدي البصر بطريقة إبداعية من حيث وصف مشعارهم وأفكارهم. فكان هناك ربط مبدع وجميل واستثمار للكثير من معلوماته في مختلف الميادين و المجالات بطريقة رائعة!
 "عندما يضحك الأسْوَد" أزاح عن السواد اسوداديته المشؤومة ليضعه ضمن الألوان التي تضحك، ليقدم لنا الكاتب فكرة ذات عمق وبعد وهي: لا مكان لليأس.. فالأسود يضحك كما تضحك جميع ألوان فصل الربيع. و مع أنغام الموسيقى وريشة الرسام و الألوان المتدفقة لتسطر صورا ترسم على الوجوه البسمة، حاول الكاتب مهند بقلمه أن يرسم معاناة الفتى (نورالدين). وقد عبر عن تلك المعاناة  بالألوان والأشكال التي تتراقص معاً، راسمة بسمة التفوق والانتصار على العجز والإعاقة لتسطر حقيقة كونية تقول: " إن مع العسر يسرا"!