الأحد، 10 مارس 2013

السنن بين الأجر والوزر! 2- 2

قلنا ان الانسجام بين الفطرة والممارسات هي واحدة من الأمور التي تحمي المنظومة البشرية. وهذا الانسجام هو الذي ينادي به الجميع سواء على الصعيد السياسي أو الوطني أو الاجتماعي أو الفردي. لكن رغم تلك الدعوات...


قلنا ان الانسجام بين الفطرة والممارسات هي واحدة من الأمور التي تحمي المنظومة البشرية. وهذا الانسجام هو الذي ينادي به الجميع سواء على الصعيد السياسي أو الوطني أو الاجتماعي أو الفردي. لكن رغم تلك الدعوات إلا أن الواقع يختلف، فبدل الانسجام هناك واقع آخر. فعلى الصعيد السياسي ترى الساسة يعلنون غير ما يفعلون. وعلى الصعيد الوطني كل ما نسمعه من التجار هو أهمية الأمانة وعدم الغش أو الاحتكار أو مراعاة عدم المبالغة بالأرباح، وما نسمعه من المسؤولين هو ضرورة الاهتمام بالمصادر الوطنية بشرية كانت أم غيرها والعمل على رفع كفاءة المؤسسات والاعتماد عليها. إلا أن معظم الوقائع مغايرة للنظريات التي ننادي بها فتتشكل بذلك فجوة كبيرة بين ما يقال وبين ما يتم فعله وراء الكواليس.
أهمية الانسجام بين الفطرة والممارسة لم يغفل عنها أحد قولاً وتصريحاً ولكن «عند الامتحان يكرم المرء أو يهان»، والامتحان هو الوقوع في المحك. وعند هذا المحك قد نقر سنة أو سننا أخرى ايجابية كانت أم سلبية. وهذه السنن التي نسنها سواء على المستوى الوطني أو الاجتماعي تمتد تأثيراتها كما أشرنا في المقال السابق ولا تبقى ضمن أطر ضيقة ولا أزمان محددة. كما أن تأثيراتها تمتد، فكذلك أجر أو وزر من كان السبب في إيجادها لا يقتصر على زمان ومكان معينين. فتصور أن تكون السبب في سن ظاهرة خيرة، وتشارك كل من عمل بها في الأجر على مر الأزمان، في الوقت ذاته تصور أن تكون السبب في ظاهرة سيئة وتحسب عليك سيئات كل من عمل بها حاضرا ومستقبلا. هذه هي المعادلة التي إذا أدركناها على المستوى الفردي أو الوطني أو الاجتماعي نستطيع أن نسهم في بناء المجتمع الإنساني بإيجابية.
إلا أن سن السنن الطيبة لا تتأتى بتلك السهولة التي نجدها في انتشار السنن السيئة وهذا يرجع الى النفس البشرية التي تستسهل السهل وتميل نحو الدعة واللهو. لهذا نرى سهولة انتشار سنن السوء وتغلغلها على جميع الصعد خصوصا إن لم يكن هناك رادع خارجي يحد منها. وهذا الرادع الخارجي إما أن يكون على هيئة استياء اجتماعي يثبط همة الشخص أو عقابا حازما يكون مانعا له من سن سنن السوء أو قانونا يوضع للسير على خطاه.
ومن أمثلة عدم سهولة انتشار السنن الحسنة حضرتني هذه الحادثة، فقبل أكثر من ثلاثين عاماً نشرت إحدى المجلات المحلية على غلافها عنوانا كان ملفتا للانتباه. وإن اسعفتني الذاكرة فإن عنوان المقال كان: عروس بتسعة ريالات وستمائة بيسة. وإذا تحرينا الحقيقة فإن هذه الحادثة كانت محاولة من فتاة لم تتعد الخامسة عشرة من عمرها آنذاك أرادت أن تغير مفهوم الناس عن المهر، وتقدم فكرة حول أهمية العمل على جعل الزواج أمرا ميسرا للجميع. عدد من الأشخاص نحووا بعدها هذا المنحى، إلا أن تلك السُنَّة لم تجد لها الصدى المطلوب. وعدم وجود الصدى المطلوب بل العكس حدثت انتكاسات في بعض المجتمعات كان لعدد من الأسباب منها: أولا: نقص في العملية التوعوية والتشجيعية والتحفيزية التي تخاطب الفطرة بل العمل على تقديم صورة مغايرة وسلبية عن السنن الطيبة. فالمجلة على سبيل المثال قدمت العروس وكأنها سلعة رخيصة الثمن بسبب ذلك المبلغ الذي أخذته مهرا لها. ومن المنظور الإسلامي فالمهر هو رمز لكرامة المرأة وتعبير عن مكانتها، ألم يرد عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «أقلهن مهرا أكثرهن بركة». ثانيا: لقد أوضحنا في المقال السابق أن الناس تتأثر بسلوكيات الفئات النافذة في المجتمع وهو ما ينعكس على عامة الناس. فمثلا على الصعيد الاجتماعي، حينما تتحول أعراس أولئك النافذين في المجتمع الى مهرجانات يتنافسون فيها في سن سنن جديدة فإن العامة يسعون إلى أن يحذوا حذوهم بكل ما أوتوا من قوة وإما اتقاء من ألسن القيل والقال، أو من باب: «أنت ما أحسن مني».
ثالثا: طغيان الفكر الاستهلاكي على مجتمعاتنا. ففي جميع مناسباتنا سواء كانت مناسبات سعيدة أو غيرها، لا ينصب التفكير في وضع حلول من أجل تقليص استهلاكاتنا أمام هذا الوضع المأساوي من ارتفاع الأسعار (من غير مبرر في الكثير من الأحيان) بقدر ما نفكر في كيفية الحصول على تمويل إضافي من أجل توفير ما نرغب في توفيره أو سن سنن جديدة أو التأكيد على السنن الاستهلاكية القديمة. فالارتفاع في الأسعار من المفترض أن يقودنا إلى التفكير في سن سنن طيبة لمواجهتها حتى تظل الحياة بالنسبة لنا جميعاً مربعاً طيباً وساحةً للعطاء والتعاون والمحبة. فمثلا، ارتفاع الأعباء المالية التي اثقلت كاهل الآباء عند تزويج أولادهم قادت البعض الى محاولة إيجاد بعض الحلول مثل الزواج الجماعي وغيرها. إلا أن هذه الأفكار لم تلق الرواج الكافي بل ما حدث هو العكس. فعملية التنازل عن تلك العادات والتقاليد في عملية الصرف أو إيجاد بدائل أخرى ليس من الأمور الواردة في الأذهان بسبب طغيان الفكر الاستهلاكي من جهة وبسبب الضغوطات الاجتماعية التي تطالب الأفراد بالظهور بمستوى اجتماعي معين من جهة أخرى. هذان السببان يقفان حاجزا دون حدوث عملية التغيير تلك التي ينشدها الكثيرون. ولهذا فالبحث عن حلول لمسألة الاستهلاك لم يجد له رواجاً وإنما البحث عن موارد أخرى سواء تلك التي تقع على كاهل والد الفتاة أو التي لابد للرجل من تحملها حسب التقاليد والعادات غدت هي المستهدفة. واستمرار هذه الحالة وتفاقمها في بعض المجتمعات لا ريب في أنه سوف يصيب المجتمع بكساح مزمن قد تصعب عملية الشفاء منه.
أن طغيان التفكير الاستهلاكي وتصاعد أسعار السلع من غير مبرر في الكثير من النواحي الحياتية هي بلا ريب قد ألهتنا عن تقديم سنن طيبة في حياتنا ولكي نعيد للحياة معناها ومذاقها ومن أجل الوقاية فلابد من أن... نعيد النظر!