الاثنين، 17 مارس 2014

دعاء سفانة بنت حاتم الطائي دعوة للتأمل!

وعينا بمفردات الحياة فتح لنا آفاق معرفة وفرص عطاء. ووعينا بقيمنا الإنسانية فرش أمامنا طرقًا معبدة لعطاء غير متناهٍ. إلا أنّ هذه المفردات الحياتية والقيم الإنسانية لابد لها من...


وعينا بمفردات الحياة فتح لنا آفاق معرفة وفرص عطاء. ووعينا بقيمنا الإنسانية فرش أمامنا طرقا معبدة لعطاء لا متناهي. إلا أن هذه المفردات الحياتية والقيم الإنسانية لابد لها من مزاوجة مكتملة الأبعاد والزوايا. هذا التزاوج بحاجة إلى الكثير من العمل والفهم والدراية لتكتمل الصورة. وكمجتمعات نامية نحتاج إلى أن تكون تجاربنا الذاتية مستمدة من واقعنا وتراثنا وخلفيتنا الثقافية والدينية. ولكننا أيضا بحاجة إلى الانتفاع من تجارب الآخرين ورؤاهم وممارساتهم. 

في الحياة أوجه مختلفة للعلوم والمعارف والعطاء. واختلاف تلك الأوجه يثري الفكر والعقل ويقدم نتاجا مبدعا. فالتراكمات الفكرية بين البشر دائما تقدم إبداعا متناه النظير من قبل العقول المتأملة لما حولها. لهذا كانت الوصية الإسلامية بطلب العلم ولو كان في الصين. فطلب العلم ولو في الصين يحمل أبعادا أخرى بجانب أهمية الاهتمام بالعلم والتعلم. حينما ينطلق الإنسان في العالم من أقصاه إلى أقصاه فإنه ينطلق وسط ثقافات وتجارب شعوب كثيرة متعددة الأجناس والاتجاهات والغايات. هذه الانطلاقة تصقل العديد من المفاهيم والممارسات والعادات التي يعيشها الإنسان وينمو عليها. وتتيح له لحظات التأمل تلك مراجعة ممارساته وأفكاره إلا أن تلك المراجعة لا تحصل إلا عند عقول انشغلت بالتفكر وتعودت على التأمل. 

العديد من أفكار المشاريع الحياتية التي تبنيناها من حضارات أو بيئات أخرى انعكست سلبا علينا. هذا الانعكاس السلبي قد يكون بسبب إهمالنا لبعض من جزيئياتها التي لم نفقهها ونحن نظن بأننا نحسن صنعا. فلهذا لم تتحقق النتائج التي تحققت عند أولئك. فعلى سبيل المثال  في المجال الإجتماعي والمؤسسات الأهلية التي انبثقت منها الكثير من المبادرات الجميلة في دعم مختلف المشاريع، فإن هذه المؤسسات تواجه عددا من الأمور التي تعيق انطلاقتها، ومنها: 1) ما هو متعلق بالأنظمة والسياسة الوطنية، 2) و منها ما هو متعلق بالجانب الذاتي ومن ثم الغيبي. الجانب الأول ما يختص بالسياسات الوطنية، فإن بعض تلك السياسات تثير الاستغراب والدهشة، قبل عام تقريبا تم اقتراح تدريب مجموعة من الشباب والشابات في إحدى المجالات الأدبية. وبادرت إحدى المؤسسات التجارية بتقديم دعم مالي كامل لتغطية تلك الفعاليات، ولكن مع الأسف لم يتم تبني تلك المبادرة من تلك الجهة الحكومية... لماذا؟ 

السياسات العالمية أو الدولية التي تحث على المشاركة الاجتماعية تضع الكثير من الحوافز المعنوية أمام المؤسسات التجارية للمساهمة في الشأن الإنساني بمختلف أوجهه.  ومن هذه الحوافز ذكر اسم المؤسسة و تقديم هدايا تذكارية لدعمها أو تسجيل اسمها ضمن المؤسسات الداعمة للمشروع في لوحة شكر وغيرها من الوسائل لحصد ثمار فاعلة تعود بنفعها على المجتمع. لكن.. الحساسية المرهفة التي نعيشها تشكل عائقا في وجود هكذا مشاركات. لهذا قلما نرى في الشأن الحكومي الإنساني مشاركة متواصلة و شاملة و فاعلة من القطاع الخاص بالرغم من وجود رغبة و استعداد في دعم هكذا مبادرات وغيرها بما في ذلك الرغبة في إنشاء مكتبات عامة أو مشاريع ثقافية ومعرفية مختلفة. و بالرغم من أن هذه الأعمال خيرية فمن الطبيعي أنها لن تقدم من المؤسسات التجارية إلا من أجل حصاد إعلامي يعلي شأن واسم المؤسسة المتبرعة.. مع أن الأعمال بالنيات لكن ما يهمنا هو المنفعة العامة! 

بجانب العامل المتصل بالسياسة الوطنية، فهناك عوامل ذاتية أو غيبية التي تجلت بشكل جميل في قصة سفانه بنت حاتم الطائي حين قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن سيقت أسيرة بعد غزوة طيء: "يا محمد، هلك الوالد.. وغاب الرافد.. فإن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب! فإن أبي كان سيد قومه.. يفك العاني.. ويقتل الجاني.. ويحفظ الجار.. ويحمي الديار.. ويفرج عن المكروب.. ويطعم الطعام.. ويفشي السلام.. ويحمل الكل.. ويعين على نوائب الدهر.. وما أتاه أحد في حاجة فرده خائبا.. أنا ابنة حاتم الطائي!". فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يا جارية.. هذه صفات المؤمنين حقا.. ولو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه.. ثم قال لأصحابه: خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق.. ثم قال: ارحموا عزيزا ذل.. وغنيا افتقر.. وعالما ضاع بين جهال. كما امتن عليها بقومها، فأمر بإطلاقهم تكريما لها. فاستأذنته في الدعاء له فأذن صلوات ربي عليه و آله لها، فقالت: أصاب الله ببرك مواقعه.. ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا جعلك سببا في ردها عليه." 

دعاء سفانه يضيء واقعا نعيشه. فهناك الكثيرون ممن يقومون بأعمال خيرية أو تطوعية أو إنسانية أو تعليمية إلا أن ما يقومون به ليس بالضرورة يكون قد أصاب برهم موضعه وإنما قد يكون كمن لامس السراب. ولأصابة البر موقعه هناك عدد من الشروط: أول تلك الشروط هو أن يكون الإنسان مدركا للعمل الذي يقوم به عارفا بأبعاده متيقنا من سلامته وصحته من النواحي الإنسانية والقانونية والإخلاقية والتعليمية وغيرها. ففي العالم المتحضر المساهمة في الأعمال الخيرية أو الاجتماعية أو التعليمية أو غيرها تتخذ نهجا ورؤية. وهذا النهج وتلك الرؤية يهدفان إلى انتاج عمل متوازن ومتكامل الجوانب وغير متعارض مع الرسالة الإنسانية الأخلاقية والأسس التربوية واللغوية وغيرها ويخدم فلسفة وأهداف المجتمع والوطن والمؤسسة التجارية الداعمة. فعند تقديم أي عمل فإن المؤسسة لديها رؤية في كيفية تقييمه وفق معايير معينة يؤمنون بها ودراسة أبعاده المعرفية أو التلعيمية أو غيرها، ومن ثم إقرار العمل من عدمه. فهذه الخطوات العلمية تعد من الشروط الأساسية لحصول البركة أو لإصابة البر موقعه. 

إصابة البر موقعه هي نوع من التوفيق الإلهي المرتبط بالاستعداد الإنساني. ففي أي عمل بشري يقترن النجاح بالأخذ بأسباب العمل وبكيفية الاستعداد له والإمساك بالخيوط التي تسهم بنجاحه. والعمل الناجح ليس هو العمل الذي يأخذ له صدى وصوتا، وإنما هو ذلك الذي يكتب له الاستمرارية والعطاء ويكون قائما على أسس سليمة وصحيحة وخلوص نية. فكم من الأعمال التي نقوم بها تفتقر إلى أبسط عوامل الصفاء وخلوص النية، أو أنها تضر من غير أن نعي ذلك أو ندركه! ولهذا فإن هذا التوفيق الالهي قائم وفق سنن وقوانين يصيب ببركته كل من يأخذ بأسباب العمل بغض النظر عن الخلفيات العقائدية للأشخاص. فدعاء سفانة الطائي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقدم لنا رؤية شاملة لكنها بحاجة إلى قدر من التأمل و إعادة النظر!