الأربعاء، 19 سبتمبر 2012

حرية الرأي أم تداعي الأمم؟

قبل عدة أعوام كنت في إحدى الكنائس الأمريكية في ولاية فرجينيا أستمع إلى محاضرة من امرأة مصرية قادها سوء حظها في الحياة إلى التحول من الإسلام إلى المسيحية...



قبل عدة أعوام كنت في إحدى الكنائس الأمريكية في ولاية فرجينيا أستمع إلى محاضرة من امرأة مصرية قادها سوء حظها في الحياة إلى التحول من الإسلام إلى المسيحية. وفي تلك المحاضرة استعرضت تلك المرأة قصة حياتها بكثير من التفاصيل غير المنطقية، ثم وبكل دناءة تطاولت على شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وحين أردت أن أدلو بدلوي موضحة خطأ النقاط التي طرحتها، طالبتني بإجابة مختصرة على سؤال طرحَتْه لا تتعدى كلمتي "نعم" أو "لا". وعندما وجدتْ أن إجاباتي لا يمكن ان تنحصر بين هاتين الكلمتين أمرت بقطع مكبر الصوت عني، فتيقنت حينها أن تلك الادعاءات التي سطرت على جدران الكنيسة التي تنادي بالمحبة والسلام لا يمكنها أن تصمد أمام سماع الرأي الآخر لبضع دقائق. وظهر لي عدم صدق تلك الادعاءات التي تنادي بحرية الرأي وقيمة الاستماع إلى الآخر. فبمجرد عدم حصري للاجابة بين كلمتين "نعم" و"لا"، صدرت الأوامر بقطع الميكروفون عني وأخذه من يدي وطردت من تلك الكنيسة، يتبعني رجل في أرذل عمره بسباب وشتم. ومن هناك ولدت تلك الكلمات التي سطرتها إلى رئيس تلك الكنيسة قائلة له فيها: إنكم تكيلون بمكيالين!!
وهذه هي عقدة الغرب أمام الإسلام والمسملين في أنهم يكيلون بمكيالين. هم أصحاب قوانين ومنطق، لكن تلك القوانين والاحاديث المنطقية سرعان ما تسقط أمام "الإسلام" وما يتبعه من مرادفات. أثناء احداث الحادي عشر من سبتمبر والتي مرت ذكراها قبل عدة أيام، كنت في طريقي إلى الجامعة في الباص الجامعي حينها حاصرتني العيون التي كانت جميعها تحمل العديد من الاسئلة والاستفسارات. وبعد وصولي إلى مكتبي قررت أن أعرج على بعض الزملاء التربويين الذين سألتهم عمن يتوقعون أن يكون خلف ما حدث، فقالت لي إحدى الزميلات وكانت "الإنسانة المثقفة والمتعلمة والتي تقوم بتوجيه وإرشاد الطالبات" يقال: إنهم مسلمون! وتولد لدي سؤال آخر: وكيف عرفوا؟ قالت: وجدوا في سيارة الأجرة التي استقلوها والتي تركوها أمام بوابة المطار كتابا في كيفية قيادة الطائرة مترجما إلى العربية! ابتسمت في وجهها وأنا اقول في نفسي: فعلا إنني أحمل عقلا شرقيا. وأما العقل الامريكي فلديه القابلية الكاملة لتصديق ما يقال، خاصة إذا كان الأمر متعلقا بالإسلام والمسلمين! هناك الكثير من الحوادث التي مرت علينا ولا شك في أن طلابنا في الولايات المتحدة (الذين ازداد عددهم) سوف يكتشفون سذاجة هذا الشعب الطيب. الا أن تلك السذاجة الطيبة تتأثر أيضا بما يدور من حولها خصوصا حينما يتعلق الامر بسلامتهم وأمنهم! ولعل روايتي "الصيحة" التي تقع أحداثها في الولايات المتحدة تكشف جوانب من تلك الحياة. 
إن فهم نفسية هذا الشعب هو الذي حدا بالكثير من المناوئين للاسلام والمسلمين في الولايات المتحدة سواء كانوا صهاينة او أنجلو صهاينة إلى محاربة الإسلام والتعرض إلى أقدس رمز من رموزه: خير البشر وسيد الأنبياء والمرسلين، تحت مسمى حرية الرأي. في الوقت ذاته فإن مجرد إجراء مناقشة علمية حول حادثة الهولوكوست غير ممكن، فعليه حظر قانوني في الكثير من الدول الغربية. أتذكر في إحدى الجامعات الامريكية وبعد أحداث الدانمارك والتي نشرت صورًا مسيئة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن تم عقد جلسة نقاش ضمت العديد من الاساتذة المسلمين وغيرهم ممن كانوا يرون في تلك التصرفات انعداما للاخلاق. في ذلك النقاش تطرق البعض إلى الهولوكوست. فمع أن الهولوكوست حادثة تاريخية قابلة للصواب والخطأ، إلا أن تداولها ومنافشتها محظوران، لكنهم في المقابل وفي الوقت نفسه يهاجمون ويسيئون إلى معتقداتنا، إنه الكيل بمكيالين بعينه. لكن يا ترى ما الذي يجعلهم يحتقرون مليارًا ونصف المليار مسلم بينما في الوقت ذاته يراعون بضعة ملايين من اليهود؟ 
من خلال قراءتي لكتاب جودت سعيد "الإنسان حين يكون كلا وحين يكون عدلا"، أشار إلى مفهوم الفاعلية. فقد أورد الكاتب "حديث القصعة" التي اشار فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الامة الاسلامية قائلا: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، وحينما تعجب المحيطون بالرسول عليه وعلى آله الصلاة والسلام بسؤاله: "أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟"، فنفى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، وقال: "بل أنتم يومئذ كثير"، نافيا قلة العدد ومثبتا نوعية الإنسان وحالته وقدرته على أن يكون فاعلا أي أن المشكلة تقع في عدم فاعليته كما أوضح الكاتب. ثم أكمل رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن...". ويوضح جودت سعيد أنه حين يفقد الإنسان الإيمان بأن هناك شيئا يستحق أن يبذل من أجله فقد فَقَدَ أساس الفاعلية وغرق في أُتون الكلالة والوهن. وهذه حالة المجتمعات الإسلامية، مع الأسف الشديد، في أنها أصبحت في حالة من العجز والوهن والكلالة بحيث لا يعود منها نفعا ولا يقيم لها العالم بأسره وزنا.
وهذه الكلالة وعدم الفاعلية التي تعاني منها المجتمعات الاسلامية بعض أسبابه يعود كما أشار جودت سعيد إلى عدم تفعيل العقل وتأمل أحداث هذا الكون والذي هو (أي الكون) وأحداثه "وسيلة أخرى لاستنتاج سننه، والاستخدام الصحيح لهاتين الوسيلتين هو الذي يعطي للإنسان الفعالية في النهاية". ثم يستدل على تلك النقطتين او كما يسميها الكاتب "الوسيلتان اللتان أكرمنا الله بهما وهما: الآفاق (أحداث الكون) والأنفس (القوى الواعية في الانسان)". وذلك كما ورد في قوله تعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق". فإذا توفر في الإنسان هذان العاملان كانت له القدرة على رسم معالم واضحة لما يحدث. ويكون قادرا وقتها في أن يدير دفة الأحداث المحيطة به. ولأننا لم نعد نملك أمر إدارة دفة الأمور فهذه الانتهاكات التي تقع على حرمة معتقداتنا وتتجرأ على حرق كتاب الله وسب نبيه الكريم وتصويره بأسلوب مهين، لا يواجه سوى بردات فعلنا قصيرة المدى، والتي لا يتعدى تأثيرها سوى أيام معدودة وبعدها نبدأ في العد التنازلي للنسيان فننسى ما جرى ونغفل عما يجري من مؤمرات تحاك ضد مقدساتنا. ومع الأسف، فإن واقع الإنسان المسلم في هذا الزمن رغم كثرة العدد هو: أن تنتهك حرمته وتستباح أماكن عبادته ويستهان بمقدساته كما حدث في الدانمارك والولايات المتحدة وغيرها من الدول. وفي هذا الوضع المأساوي فإن المسلم صاحب الذاكرة القصيرة لا يتمكن حتى من مواصلة مقاطعة بضاعة دولة صغيرة رغم سبهم وشتمهم لرسول البشرية. والمقاطعة المطلوبة لم تكن سوى لتلك الكماليات من الأجبان والقشدة التي يصدرونها إلينا. إلا أننا ومع الاسف الشديد دب النسيان في اوصالنا وذهبت تلك الحميه وعادت حليمة لعادتها القديمة! إنها الذاكرة القصيرة التي نحملها والتي لا تنتج الا قليلا من ردات الفعل. وكم تمنيت ان تكون لنا ذاكرة ذلك الطفل ذي التسعة أعوام حين رفض أكل حلوى "cheese cake" لأنه كان مصنوعا من جبن دانماركي!
إن هناك خلف هذه العتمة الحالكة نورا يمكننا ان نستلهم منه الكثير من العبر كما أشار جودت سعيد إليه من خلال قول الله عز وجل "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق".. فهذه الاعتداءات التي تحدث وتثير جميع المسلمين بلا استثناء تستهدف مقدساتنا جميعا سنة كنا أو شيعة أو إباضيين أو غيرها من المذاهب. فمحمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رسول كل مسلم ونبينا جميعا والقرآن الكريم هو الكتاب الذي يسترشد به المسلمون بغض النظر عن مذاهبهم. وهذا الغضب والتنديد من خلال التظاهرات للدفاع عن النبي لم يقتصر على عربي أو أعجمي أو شيعي أو سني وانما هب الجميع لنصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فما يجمعنا أكبر وأعمق وأعظم من الأفخاخ التي ينصبها المستعمرون ليفرقوا بيننا. فعدونا واحد والذي يستهدف مقدساتنا واحد والذي استهدف نبينا واحد وهم في نهاية الأمر لا يفرقون بين هذا وذاك فهدفهم هو هذا الدين الخالد.. فلْنُعِدِ النظر!