الأحد، 7 أكتوبر 2012

على هامش الواقع الإداري في القطاع الحكومي

لقد أثار مقالي السابق «ازمة الإداري بين النظريات الحديثة و الممارسات» المنشور في جربدة عمان يوم الأحد السادس عشر من سبتمبر الماضي، أثار الكثير من الشجون والآلام ...
http://main.omandaily.om/node/111427
 

لقد أثار مقالي السابق «ازمة الإداري بين النظريات الحديثة و الممارسات» المنشور في جربدة عمان يوم الأحد السادس عشر من سبتمبر الماضي، أثار الكثير من الشجون والآلام التي يعاني منها الكثير من الموظفين في القطاع الحكومي. وتمحورت معظم هذه الشجون في الفراغ الذي يعاني منه المنتسبون إلى القطاع الحكومي. كما أن البعض انتقد أسلوب التعامل في هذا القطاع. فالفراغ و أسلوب التعامل عاملان يعاني منهما بعض أولئك المنتسبين لهذا القطاع وهما في الوقت نفسه يستخدمان كأداة من أجل كيل التهم للموظفين بينما مصدرهما ليس الموظف و إنما النظام الإداري نفسه.
فالنظام الإداري هو الذي يأتي بهؤلاء الموظفين كما أشرت في مقالي السابق. فالموظفون قبل أن يصبحوا موظفين في هذا القطاع أو ذاك كانوا طلبة وطالبات صقلتهم مرحلة التعليم عبر المذاكرة والمثابرة والامتحانات فهم شباب يحملون في داخلهم طاقات وقدرات و إمكانيات. وهؤلاء الشباب هم من نفس صنف المخرجات التي يستقبل جزء منه القطاع الخاص ويستقبل الجزء الآخر منه القطاع الحكومي. هذه المخرجات البشرية تحمل نفس الثقافة الإجتماعية، وقد تشكلت ضمن نفس الإطار الجغرافي تقريبا و نالت نفس التعليم قبل الجامعي و الجامعي. فالخلل الذي يعانون منه هو بسبب بيئة العمل التي انخرطوا فيها، فسعد البعض وعانى الآخر! و الخلل المستشري في بيئة العمل يبدأ بعد فترة من الزمن ينخر في هذا الكيان الشاب وقد يُوجد منه عاجز غير قادر على العطاء.
لقد تلقيت العديد من التعليقات والرسائل على مقالي السابق، وكان من ضمنها رسالة أثرت فيَّ كثيرا وسوف أنشرها بأكملها مع تعديلات طفيفة. تقول الرسالة: «بعد سنوات الدراسة الجميلة والتي تكللت بالنجاح والتفوق الباهر وبعد لهفة الانتظار العارمة تم قبولي في الوزارة...، أذكر أنني كنت في غاية الفرحة لحصولي على وظيفة في نفس مجال عملي ساعتها لم تكن الدنيا تسعني أمالا وطموحا وأفكارا لتطوير مجالي في العمل طالما دونتها طوال سنوات الدراسة. بدأت يومي الأول وأنهيت إجراءات التعيين و أول ما قمت به إدخال بصمتي في النظام، هذا ما طلب مني في أول يوم أدخل فيه لمكان« سجني » (أقصد مكان عملي). مرت الأيام وكان مديري في العمل يسند إلي عملا خفيفا كل يوم حتى يتسنى لي تعلم الوظيفة و كنت أتساءل و أفكر باستمرار متى سيثقون بي و أعمل عملا حقيقيا، ربما في الأيام القادمة حتى أتقن الأمور الإدارية جيدا وكنت أشعر دائما بأنني أقضي ثلاثة أرباع وقتي في فراغ، وأنا التي لم أعتد أن أقعد بدون عمل أفعله. وكنت أؤمل نفسي دائما بأن العمل سيأتي مع الأيام و بأنني ما زلت مبتدئة و جديدة و كنت أنتقل من موظف إلى آخر لأتعلم منهم أصول العمل وكانوا في قمة التعاون حيث أنني أتقنت العمل منهم في غضون أسابيع قليلة. كنت أحاول دائما ان أفعل شيئا لأسهم به في تطور العمل الخامل الذي لا حركة فيه. فكنت أراجع القانون وكنت كل مرة أمر على مادة فيه أتفاجأ بأن التطبيق الذي يقال عنه إنما هو نظري و بالكلام فقط ولم ينجز على الوجه المطلوب. وما زال التساؤل في داخلي لم لا أعمل شيئا ولم هذا الهدوء القاتل في هذا المكان وبعد مدة ليست بالطويلة أتفاجأ بأن هذا الحال ليس حالي لوحدي، وإنما حال معظم الموظفين الزملاء حيث يتوجهون صباحا إلى مكاتبهم ويثبتون حضورهم الساعة 7:30 ويقعدون بدون أي عمل حتى يغادرون، كما السجن تماما، ويثبتون انصرافهم الساعة 2:30. هل هذا هو الجدوى من وضع نظام البصمة في مؤسساتنا، إثبات وجود الموظف في المكان بغض النظر ما يفعله أو لا؟ بل هناك من يثبت بصمة الحضور ويغادر ويعود ليثبت بصمة الانصراف ويغادر مرة أخرى. حركة أتقنها الجميع ليس هروبا من العمل و إنما لعدم وجود ما يفعله. فجلوسه داخل أرجاء الوزارة بدون فائدة بحد ذاته يشكل عبئا على الوزارة. بل هذا الفراغ إنما هو مصدر لأمراض نفسية لا حصر لها. السؤال الذي يطرح نفسه هو من المسؤول عن حالة دائرة بأكملها لا يوجد بها عمل؟ هل هو خطأ إداري في استحداث هذه الدائرة أم عدم وجود من يتابع عمل هذه الدائرة؟ ولماذا تتكبد الوزارة كل هذه الخسائر(قوة بشرية ومادية) في وجود دائرة ليس لها ما تقوم به بل كان بالإمكان إسناد مهامها لدائرة أخرى؟ وجود موظفين بدون عمل مشكلة كبيرة جدا وتشكل خطرا ليس على محيط الوزارة فحسب وإنما على المجتمع ككل بل على الدولة بأكملها لما يترتب على ذلك من انعدام التقدير الذاتي للموظف، وبما ينعكس سلبا على حياته وأسرته ومجتمعه. والمعاناة مستمرة والأسئلة تكثر وتزيد. يا ترى من عيَّن فلان الفلاني مديرا؟ ولم ليس هناك من يحاسب ومتى سيطبق القانون..؟
هذه الرسالة في الواقع عكست معاناة حقيقية لثلة كبيرة من الموظفين في معظم القطاع الحكومي. هذه البطالة المقنعة ومع الأسف الشديد، ظاهرة لم تعد شاذة بل العكس صحيح. والغريب أن قصر نظر بعض المسؤولين يجعلهم لا يرتاحون إلا إن وجد الموظف متربعا على كرسيه في مكتب أجوف. وإن لم يثبت وجوده فأبسط شيء لديهم أن يكسروا قواعد الاحترام في تعاملهم أو حديثهم، فالوظيفة بهذه الصورة عقاب للموظف! والمضحك المبكي في الأمر أن تجد بعضا منهم (أي المسؤولين) يسعون جاهدين في إظهار أنفسهم بمظهر الإنسان العصري الفاهم و يعملون على صياغة رؤية ورسالة وأهداف لوحدتهم، في الوقت الذي يفتقدون جوهر هذه العملية. فهذه العقول ما زالت خارج إطار الحداثة الإدارية (إذا صح التعبير) التي يتدربون على مفاهيمها!
تصور أن مدير مدرسة ثانوية قادر ومتمكن يتم نقله إلى الوزارة. ولكن ماذا كان دوره في الوزارة؟ لقد كلف بترتيب الأوراق وخرمها وتدبيسها لمدة شهرين وبعد ذلك تم تجميده لسنة أو أكثر. وقبل فترة ليست بقصيرة طرق بابي عدة أشخاص يعانون من فراغ ويرغبون مني مساعدتهم في عمل بحوث ما. كنت أكثر من سعيدة للخوض معهم، إلا أنهم بعد فترة قصيرة بدأ الفتور يتسرب إليهم. و ذلك يعزى للعديد من الأسباب منها: أولا: إنهم ليسوا ملزمين بالقيام بهذا العمل ولكن الحماس والضجر يقودهم لاكتشاف إمكانية عمل ما، إلا أنهم حينما يرجعون لواقعهم و بيئتهم الخاملة سرعان ما يخبت ذلك الحماس المتأجج في نفوسهم. ثانيا: إن قيامهم بأي بحث لن يعود عليهم بأي تقدير مادي كان أو معنوي، فهذه البحوث لن تجد من يثمن نتائجها. فلماذا هذا الجهد خصوصا في بيئة لا تثمن الجهود؟
قبل عدة اعوام، تم تقديم اقتراح لعرض بعض الدورات المتوفرة على النت (من غير أي مقابل) و ذلك بعد ترجمتها، على أن يتم تقديمها إلى الموظفين في بعض الوحدات التعليمية. لم تتطلب العملية سوى ترشيح بعض الأسماء التي تعنى بالعملية التعليمية. فعلا تمت إقامة ورشة واحدة فقط، إلا أنه قبل البدء بإقامتها أو إتاحة المجال لتقييمها، أتت الأوامر بعدم الإستمرار ولم يكن لها أي علاقة (أي الورشة) بالأمور الأمنية أو السياسية أو المناهج وإنما تمحورت حول أساليب توصيل المعلومات والتعامل مع الطلبة. فلم يفهم المنطق خلف هذا القرار الضيق النظر!
إن تأثير البيئة المحيطة على الفرد سواء كانت إيجابية أو سلبية كبير جدا. وهذا التأثير للبيئة المحيطة هو السبب في إيجاد فرد غير منتج كما هو الحال في بعض الوحدات الحكومية. فالنظام في بعض هذه الوحدات يسهم في تكريس السلبيات و ذلك بما يحويه من قوانين و أنظمة و مركزية القرارات وافتقاد بعض المسؤولين الى المؤهلات القيادية في إدارة الدفة بطرق صائبة و ايضا إفتقاد البعض للوازع الديني والوطني. وبالتالي فتقاعس وخمول بعض الأفراد حتى من هؤلاء المبادرين يبدأ سريانه على أقل تقدير لمسايرة الوضع العام. فبيئة العمل التي لا تنمي عنصر المنافسة و العطاء سوف تسهم في تجفيف جميع الينابيع الطيبة.. فالمرء من الصعب أن يبقى على حاله.. وهذه هي سنة الحياة!
لقد عقدت وزارة الخدمة المدنية في الفترة من 15- 18 سبتمبر الماضي، ندوة «آليات تطوير الأداء الحكومي». وقد تناولت الندوة الكثير من المشاكل التي تواجه القطاع الحكومي بشفافية لم نعهدها وبرغبة جامحة على حلها لم نتوقعها. فالأيام القادمة سوف تثبت جدية تنفيذها و تطبيقها. لكننا في الوقت الحاضر وحتى نرى ثمرات هذه الندوة المتميزة بأسلوب إعدادها و بكفاءاتها وبإيمان القائمين عليها بأهمية التغيير، نتوقع أن نرى بعض الخطوات في العمل على المحافظة على الكفاءات الوطنية وتوفير بيئة لإحتضانها لتنمو وتنتج. فكما يقول القاص الغربي جورج ساند: «إن العمل ليس وسيلة لمعاقبة الشخص بل هو أسلوب لتعزيزه وتقويتة وإمتاعه». فلْنُفَعِّلْ هذا القول و الذي لن يتطلب سوى القليل من الحكمة والحنكة، حتى نتمكن من .. إعادة النظر!