الاثنين، 3 نوفمبر 2014

أطفال كربلاء.. خلود متجدد!

  "واللهِ لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أَفر فرار العبيد" شعار تحول بريقه إلى إشعاعِ وَهَجَ النفوسَ الطاهرة فتجلَّت فرادتُها في مواقِفها وأهدافِها وحركَتِها. لكنْ.. لهذه الفرادة قانون فوق قوانين البشر، إنه قانون الجاذبية..
المقال الذي بحث له عن مرسى
 أخيرا.. رسى على مرافئ جريدة الشبيبة بعد أن رفضته مراسي الوطن العديدة
ترى ماهي الأمور المذهبية التي يسسبها مقال أدبي تاريخي لتعتذر الجرائد الأخرى عن نشره؟
 الحل ليس الانفصال عن تاريخنا.. بل احتواء اختلافاتنا في الحسين رمز الثورة و الحرية و العدالة! 

"واللهِ لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أَفر فرار العبيد" شعار تحول بريقه إلى إشعاعِ وَهَجَ النفوسَ الطاهرة فتجلَّت فرادتُها في مواقِفها وأهدافِها وحركَتِها. لكنْ.. لهذه الفرادة قانون فوق قوانين البشر، إنه قانون الجاذبية الذي تتلازم فيه الأقطاب المتجاذبة في نسق إنساني فريد. فرادةُ ذلك النسق الإنساني لا ينطلق من حماسة عابرة أو وَهْجِ إشعاعٍ يغمر أنفسا متطلعة إلى تسطير بطولة في ميادين الوغى لتكون أبيات قصيدة شاعر. إن الفرادة في ذلك النسق الإنساني يقوم على وعيٍ وإدراكٍ وإيمان، إنهم فتية آمنوا بربهم فزادهم ربهم إيمانا وهدى. إنهم فتية عاشوا أحرارا وماتوا أحرارا وكانت لهم كلماتهم الحرة في زمن العبودية المُدقعة!
لم يكن الوهج الحسيني أو انطلاقته التي كانت وليدة مواقفه التي ابتنت على أسس إيمانية وإجتماعية وقيادية الا دستورا استقر في وجدان ووعي فتية وأطفال بلغوا بعقولهم ووجدانهم الحلم، بينما كانت أجسادهم لا تزال ترفل في طفولة بريئة لم تبلغ بعدها الحلم. ومداركُهم البضة تحوم في مدارات محسوساتها الفطرية التي ترى الخير خيرا و الشر شرا. وكانت النفخة الإلهية تتقد اشعاعا في بوتقة كواكب الأسحار لتعانق نجوم الفلاة.. وهناك كان الوهج محمديا والتحرك حسينيا.
انطلق الحسين بتلك الكواكب المزدانة بالوهج المحمدي وفق أسسٍ أيمانية تجلت في قوله: "مثلي لا يبايع مثله". انطلق الشعار الحسيني في وجه وَالِي المدينة الوليد بن عتبة حينما طلب من الإمام الحسين بن علي مبايعة يزيد بن معاوية. فكان الإمام واضحا في رفضه كما كان واضحا في أسباب ذلك الرفض حينما قال له: "إنَّا أهلُ بيت النبوة ومعدنُ الرسالة ومختلَفُ الملائكة ومَهبَطُ الوحي، بنا فتحَ الله وبنَا خَتَم، ويزيدُ شاربُ الخمرِ وقاتل النفسِ المُحترَمة معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثلَه!". أما الأساس الإجتماعي لحركة الحسين الإيمانية فقد استقت معالمَها من نهج رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم كما صاغها الإمام في قول راسخٍ شامخٍ قائلا: "إني لم أخرج أشَراً ولا بَطِراً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمةِ جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسيرَ بسيرة جدي رسول الله (ص)". أما القيادة التي تأهل بها أهلُ بيت النبوة فهي التي أخذت بالإمام عليه السلام إلى كربلاء وهو في طريقه لتلبية دعوة أهل الكوفة.  "مِن الحُسينِ بن عَلي إِلى مَن بلغَه كتابي هذا مِن أوليائِه وَشيعَتِه بالكوفة: سلامٌ عليكم، أما بعد: فَقَد أتَتْني كُتُبُكُم، وفهمتُ ما ذكرتُم مِن مَحبَّتِكم لِقُدومِي عَليكم، وأنا بَاعثٌ إِليكم بِأخي وابنِ عَمِّي وثِقتي من أهلي: مسلم بن عقيل، لِيعلمَ لِي كُنْهَ أمْرِكُم، ويكتبَ إِليَّ بما يَتبَيَّن له من اجتماعِكُم، فإن كان أمرُكم على ما أتَتْني بِه كُتُبُكم، وأخبَرَتني به رُسُلُكم، أسرعتُ القُدومَ إليكُم إِن شَاء الله، وَالسَّلام". لكن كانت نفوسُهم الضعفية أعجزُ من أن تُحيط أو تعي قِيَمَ الحسين بن علي فوصفهم قائلا: ""الناس عبيد المال والدِّينُ لعْقٌ على ألسنتهم، يحُوطونَه ما درَّت به معايشُهُم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديّانون".
المنهج الحسيني المحمدي روى ظمأ فتية وأطفال كربلاء بوهج شعاعه، فظلت تلك النفوس المتلهفة لقطرات الماء يوم كربلاء ثابتة في مواقفها الإيمانية رغم لوْعة تَوْقِها لجرعة تروي عطشَها البدني. إنهم فتية "وصبية لو أدركهم رسول الله (ص) لأجلسهم في حجره ولوضع فمه على أفواههم"،  لكنهم قُتُلوا بأيدٍ تمردت على إنسانيتها وكانت حية بحيوانيتها! كربلاء جسدت قِيَمَا أنصع من بياض اللبن فارتوى منها فتيةٌ وصبيةٌ من مختلف الأعمار لتتجسد في مواقف بطولية نضالية إنسانية خالدة متجددة.. عجزت المفردات اللغوية في بسطِ وصْفٍ لها. فذاك القاسم الفتى في بداية عمر المراهقة يخرج الى ساحة الوغى يحمل سيفا بيده وبتلك الشفتين الذابلتين من العطش ينشد أرجوزته مفتخرا:
إنْ تنكروني فأنا نجْلُ الحسن    سبطِ النبي المصطفى والمؤتَمن
هذا حسين كالأسير المرتَهن     بين أناس لا سُقوا صَوْبَ المُزُن
وبدأ يقاتل أعداء دين محمد رسولِ الله متجها نحو تلك الرؤوس العليلة بذُلِّها التي ساقت هذه الحرب الهوجاء ضد بنت رسول الله (ص) وكأن صدى الزمن يعيد على مسامع عمه الحسين الكلماتِ التي قالها له قبل قليل حينما سأله: بُنيْ وكيف ترى الموت عندك؟ رد وعيناه متعلقتان بعمه العملاق الماثل أمامَه.. عمِّهِ الذي ينظر أمامه الى الأرض التي فُرشت بأجساد ثلة مؤمنه من أصحابه وبكل شجاعة رد عليه: فيكْ.. فيكَ أحلى من العسل ياعم!. استهان بتلك الجيوش الكاسحة التي أمامه ليجلس متربعا في أرض المعركة ليصلح نعله بربط الخوص المتسرب من تلك العقدة.. فهُمْ في نظره أرذلُ من نعله الخوصي وأتعسُ حظا!
فإذا كان القاسم فتى رضع من بيت النبوة فإن عمرو بن جنادة فتى آخر ذو أحد عشر عاما كان مرافقا لوالده الذي أسلم روحه شهيدا في ساحة كربلاء. فتمثل الولد موقف والده وسار باحثا عن الحسين. وحينما وجده قال بصوته الطفولي الذي لم يبلغ الحلم: سيدي الأِذنَ الأِذنَ.. نظر إليه الحسين فرآه والسيفَ توأمان بطولهما. فأدرك الطفل واستدرك قائلا: سيدي أمي هي التي قلدتني حمائل سيفي وأمرتني بذلك. لكن، ماذا كان رأي عمرو الطفل؟ تعالت أرجوزته وهو يهجم على معسكر العدو:
أميري حسينٌ ونعم الأمير       سرور فؤادِ البشير النذير
له طلعةٌ مثلُ شمس الضحى    له غُرة مثلُ بدر منير
علي وفاطمة والداه              فهل تعلمون له من نظير؟
بين القاسم وعمرو فتية وصبية آخرون كلٌ وَجَدَ أُسلوبَه وطريقتَه في رفض الظلم والتعبير عن موقفه الإيماني البطولي. فذاك عبدالله بن الحسن وجد عمه وقد أحاط به جندُ زياد فركض نحوه مبتعدا عن عمته زينب التي أرادت الإمساك به. و جاء الى عمه حاميا له من سيف فاجر وصاح: يا أبن الخبيثة أتضرب عمي؟ إلا أن ذلك الجسد الغض تلقى الضربة الحاقدة التي كانت في طريقها إلى الحسين عليه السلام. فسقط عبدالله في حضن عمه مناديا: يا عماه! فضمه الحسين وقال: يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير فإن الله تعالى يلحقك بآبائك الصالحين".
سالت الكثير من الدماء المحمدية في ساحة كربلاء.. لكن الدماء الطرية للطفولة الطاهرة الغضة تستوقف الشعور الإنساني ليتساءل كما تساءل الحسين عليه السلام صائحا فيهم وهو يحمل على يديه طفلا لم يتجاوز عمره الستة أشهر: يا قوم.. إن كان هناك ذنب للكبار فلا ذنب لهذا.. خذوه واسقوه شربة من الماء، فوالله لقد جف اللبن في صدر أمه"! نعم.. أي ذنب اقترفه الصغار.. بأي ذنب يُمنَعُ عبدالله الرضيع من جرعة ماء؟ بأي ذنب يُسدِّدُ إليه المجرم سهمَ المنية؟ بأي ذنب تتساقط قطرات دمه الزكية؟ وبأي ذنب تعصف الدناءة بحياة لتوها عانقت أهداب الوجود؟ وبأي ذنب تُقطعُ أوشاجُ عناقِ الأب لابنه الرضيع، فبدلا من أن يُقَبِّلَ عنقا بالمسك تَعَطَّرْ فإذا به يرفع كفا إلى السماء بدمٍ قانٍ تَلَوَّنْ ويتكامل ذلك مع استسلام ورضا لله في كلمات خالدة يتردد صداها عبر الأزمان: هوَّنَ عليَّ ما نزل بي أنه بعين الله! "اللهم لا يكون أهونَ عليك من فصيل ناقة صالح".  
 في ذلك اليوم "يوم عاشوراء" سُحِقَتِ الطفولةُ ظُلما وعُدوانا.. فلم يكن للسؤال أو الاستفهام معانٍ في قاموس الإجرام. إنها نفوسٌ اجتُزَّت منها النفخة الإلهية فاستهوتها دنياها الفانية، فوجدت في الدم القاني مبتغاها وفي قتل الروح لذَّاتِها.. فبرزت سقطاتُها الحيوانية حينا في حرق خيام أظلت رؤوس أطفال الحسين  وحينا آخر أمتدت إلى سلب قُرطِ طِفْلَةٍ أو سِوار أخرى. أما الغدر فهي شيم النفوس التي أبت أن ترى أنجم السماء بعد أن تفتحت عيناها على دناءة وخسة وشنار. فذاك محمد بن أبي سعيد غلام ابن عقيل بن أبي طالب واقف يتلفت من الذعر والخوف يمنة ويسرى بعد أن صُرع الحسين عليه السلام. وهو في وقفته تلك، فإذا برجل يركض نحوه حتى إذا دنا منه مال عن فرسه وامتد سيفُهُ ليقتُل نفسا زكيةً طاهرة،  وأمُه واقفه تنظر إلى وليدها وقد سَلَبت الصدمة و الدهشة أحاسيسها!
 إنها النفوسُ العاجزةُ عن إدراك معاني عبَق الطفولة. فقبل ساعات كان العباس بن علي تحت وطأة أنات أطفال الحسين يجاهد لجلب قربة ماء ليسقى أطفال بيت النبوة وهو ينادي قائلا:  "فاسقوهم من الماء قد أحرق الظمأ قلوبهم" فيرد عليه الشمر بأعلى صوته: "يا ابن أبي تراب لو كان وجه الأرض كله ماء وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلا أن تدخلوا في بيعة يزيد". وبعد ذلك الرد اللاإنساني وأنات الأطفال تتعالى طلبا للماء، يركب العباس جواده ويشق الطريق بين جيوش العدو حتى يرد الفرات فيملأ القربة ماء ويتجه نحو مخيم الحسين. لكنْ.. قُطِعَ الطريقُ عليه، ثم قطعت يمناه، ثم قطعت يسراه ثم أصيب بسهم في وجهه الشريف ففقأت عينه. تبعه سهم غادر آخر انسل الى قربة الماء ليختلط الماء بدمه الزكي ويشق في الأرض نبعا لا ينضب من أجل ارواء ظمأ الطفولة. والآن حينما شَعرت تلك النفوسُ الدنيئة بإنتصاراتها الموهومة سُمح لأطفال الحسين بشرب الماء وارواء ظمئهم وسد رمقهم،  لكن رمق فراق الحسين أشدُ وطأة.. فنبَذه بعض أطفال الحسين والبعض الآخر حمل الماء نحو المعركة ليرووا به عطشَ الحسين!
الطفولة التي سُلبت في كربلاء لها صورٌ عديدة امتدت من يوم كربلاء وتواصلت حتى مجلس الطاغية يزيد ين معاوية. تقدمت رؤوسُ الحسين و أصحابِه المحمولة على  الرماح ركبَ سبايا آل محمد الذي يضم الأطفال والصبية والنسوة وهم في طريقهم من العراق الى الشام .. ليسلبوهم بسمة الطفولة وليؤججوا ذكرياتهم بمصائب معركة كان الكرب والبلاء يتشاطران طرفيها. في تلك المسيرة الهمجية لسبايا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم كانت الطفولة تسقط تترى مفارقة الحياة، فهنا يسقط طفل و هناك طفلة فتلك الاجساد الغضة الطرية لم تكن لتستطيع التحمل والصبر على ما تحملته أنفسهم الطاهرة.. و في كل مكان يسقط طفل يردد صدى الزمن القادم أن مَعْلَما أو مشهداً سيقام ليكون منارة تستمد علوَّها وشموخَها من قامة طفل محمدي النهج حسيني الشموخ.
لكن السؤال الذي ضاع عن تلك الأنفس الحقيرة حينما عميت بصيرتهم و بصائرهم هو ذلك الذي بينه أبو الأسود الدؤلي:
ماذا تقولون إن قال النبيُّ لكم            ماذا صنعتم وأنتم آخرُ الأمم
بأهل بيتي وأنصاري ومَحْرَمتي          منهم أسارى وقتلى ضُرِّجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحتُ لكم       أن تخلُفوني بسوء في ذوي رحمي
سلام الله عليك يا محمد يا رسول الله يا رحمة الله على البشرية! فأثناء صلاتك يثب السبطان الحسن والحسين على ظهرك فإذا أرادوا منعهما تشير إلى المانع و أنت في صلاتك بــــ"دعهما".. وتقول: نِعمَ الجملُ جملُكُما.. أو نعم المطيُّ مطيكُما ونعم الراكبان أنتما! كنت لا تستعجل الحسَيْن الذي امتطى ظهرك في صلاة واجبة تؤديها حتى حسب من حولك أن الوحي قد نزل عليك.. لكنك أجبتهم: "لم يوحَ إليَّ، ولكن ابني كان على كتفي فكرهت أن أعجله حتى نزل". أسَّسْتَ للطفولة دستورا وأرسيت لها حقوقا فكان الحب أولهما. كنت تُقبِّل الحسن والحسين عليهما السلام وتستغرب قائلا: من لا يَرحم لا يُرحم!! فسلام الله عليك يا نبي الرحمة وسلام الله على ذريتك وأطفالك الذين سُلبت طُفولتُهم في يوم كربلاء ليذبحوا كما تذبح الخراف وليساقوا كما تساق الإبل.. "إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى". إنهم أبناء محمد سلام الله عليه. فسلام على تلك الطفولة الزكية وسلام عليهم يوم ولدوا ويوم استشهدوا ويوم يبعثون أحياء. سلام على أطفال و صبية خَيْرِ خَلْقِ اللهِ وَسَيِّدِ خَلْقِهِ ورحمة الله وبركاته!