الأربعاء، 15 فبراير 2012

بين الاختلاف والتنوع

عند مراجعة كلمتي الاختلاف والتنوع في المنجد نجد أن كلمة الاختلاف تعني التباعد عن المركز أو النقطة. أما كلمة التنوع التي تعني صار أنواعا «كل صنف من كل شيء ....


عند مراجعة كلمتي الاختلاف والتنوع في المنجد نجد أن كلمة الاختلاف تعني التباعد عن المركز أو النقطة. أما كلمة التنوع التي تعني صار أنواعا «كل صنف من كل شيء وهو أخص من الجنس». وما يعنينا هو أن الاختلاف والتنوع كلاهما من سمات بني البشر.
والفارق بين الاثنين هو أن الأولى تؤدي إلى الانحراف عن المركز وهذا الانحراف قد يشكل خطرا على الأمة أو الأفراد أو المجتمع او العالم بأجمعه، أما الثانية فهي من عوامل الصمود والقوة والعمق والإثراء سواء على مستوى الفرد أو الأمة. فرغم أن هناك الكثير من الدعوات الى أن الخلاف لا يجب أن يفسد في الود قضية وإن انحرف عن المركز، لكن أي انحراف عن المركز لا بد انه سوف يشكل انحرافا في السلوك والمعاملة والفكر. أما التنوع بجميع مستوياته وفئاته فهو الذي يحفظ الود ويزيد في النماء ويساهم في تطور الفكر البشري.
التنوع البشري يتخذ أشكالا مختلفة ومتنوعة ضمن المنظومة الوطنية الواحدة. وهذه الأشكال المختلفة سواء على مستوى العادات والتقاليد أو طريقة السكن واللبس أو اللهجات أو التفكير كلها من أسباب عمق التراث وثراء الفكر. فكما أن هذا التنوع يسمو بالمنظومة الإنسانية فإنه كذلك يمدها بخصوصيات تتشكل وفقها منظومات فرعية وكيانات متعددة ضمن الدائرة الإنسانية الواحدة. فكما أن العالم منقسم إلى قارات والقارات منقسمة إلى مناطق ضمن الدائرة العالمية والمناطق منقسمة إلى دول تشترك في عدد من العوامل الجغرافية منها أو البيئية أو العرقية، وهذه الدول تنقسم بذاتها إلى مناطق وولايات وبلديات ومراكز فإن السكان أيضا ينقسمون إلى قبائل أو عشائر، وهي بدورها تنقسم إلى اسر والأسر تنقسم إلى أفراد تربطهم روابط مختلفة، فتارة تصغر الدائرة وتارة أخرى تكبر. وضمن هذه الدوائر المتعددة يتشكل الفكر الإنساني وفق منظومات اجتماعية. فكما أن التنوع يولد سمات مشتركة بين مجموعة أو منظومة إنسانية إلا أن هذه السمات المشتركة قد لا تكون معممة أو شاملة لجميع عناصر نفس المجموعة. فعلى سبيل المثال، أنا اشترك مع أختي وأخي ضمن دائرة الأسرة واسم العائلة وبعض من العادات والتقاليد لكنني اشترك مع بعض من الأصدقاء في الهوايات أو أسس التفكير أو الوظيفة. وتبقى لكل منا خصوصياته سواء ضمن الدائرة الأكبر أو الأصغر. واحترام هذه الخصوصيات هو جزء من التنوع وهو أيضا عنصر أساسي في استمرار عامل التنوع كمصدر عطاء ومنعه من الانقلاب إلى اختلاف!.
واحدة من مظاهر التنوع هو التنوع في أسلوب العيش أو المسكن والجيرة. وهذا التنوع حفظ لأزمان طويلة لأنه أساس في حفظ تلك المنظومة لعاداتها وتقاليدها وتراثها. فمثلا أولت السلطنة لمنطقة الجبل الأخضر أهمية معينة تسهم بشكل كبير في الحفاظ على أصالة تلك المنطقة وتراثها واستمرار خصوصياتها من خلال اقتصار عملية بيع وشراء الأراضي فيها ضمن دائرة القاطنين بها من أبناء المنطقة. هذه الرؤية الحكيمة هي التي ساهمت في اغناء تراث الوطن وحفظ خصوصياته. وقد أولت السياسة الحكيمة لصاحب الجلالة في هذا الوطن للتنوع ثقله وأثْرَتِ الوطن بعمقه. فإننا نجد في هذا الوطن رغم قلة عدد السكان نسبة إلى سعة الأرض، تنوعا كبيرا في ديموغرافيته. فعلى سبيل المثال، منطقة مطرح عروس العاصمة مسقط تحكي لنا الكثير من مظاهر هذا التنوع. فمطرح لها تاريخ عميق وكانت الشاهد على تاريخ مسقط والسلطنة ككل. فجبال مطرح تتربع عليها قلاع تحكي تاريخا متأصلا. وتسرد أمواج بحره حكايات السفن المختلفة التي رست على شواطئها. وذلك السوق العريق مازال محطة يستقطب السائح والتاجر ويشهد بالتاريخ التجاري المزدهر وبخصوصيات ذلك التاريخ التجاري بين أبناء المنطقة من تجار وصواغ (بائعي الذهب) ونجارين وغيرهم. وهذه الخصوصيات التراثية الغنية هي انعكاس لقاطني المنطقة من قبائل متنوعة كقبيلة اللواتية والبلوش والميمن والصواغ والرحبيين والعجم وغيرهم من القبائل التي احتضنت بعضها البعض واحترمت مناطق سكنى الآخر واحتفالاتهم وخصوصياتهم. إلا أنهم في الوقت نفسه اشتركوا جميعا في بناء الوطن وإرساء أسس المواطنة الصالحة. فأبناؤهم ذهبوا إلى المدارس نفسها والتقوا في ساحات مطرح المختلفة وأنديتها. شاركوا بعضهم البعض في أفراحهم وأتراحهم ومناسباتهم المختلفة. تميزت العروس مطرح بتراث خصب ولهجات متنوعة منها اللواتية والبلوشية والميمنية والعجمية والزدجالية وتارة اللغة العربية بلكنات مختلفة تعرف منها من هو اللواتي أو البلوشي أو الميمني أو غيرهم. لكن لم تكن تلك اللهجات عائقا أو سببا في صعوبة التواصل وإنما أتقنت ألسنة أهل مطرح معظم تلك اللهجات. فكم هو جميل حين تسمع حكايات الآباء عن تلك الأيام الغابرة!.
هذا الانسجام والتجاوب لم يكن سوى وليد احترام متبادل وتفهم لمواقع الآخرين وخصوصياتهم فلا يذكر أن اقتحم إحدى خصوصيات الآخر في الأحياء السكنية الخاصة بهم على سبيل المثال. أما في السوق فهم عشيرة واحدة جمعتهم أسواق مطرح وفرقهم تنوع المهن ليكون لكل منهم موقع. هذا الاحترام المتبادل كان ومازال منذ مئات السنين سببا في وجود عمق وتنوع بيئاتنا العمانية. وفهم هذا العمق والعمل على إرسائه يندرج ضمن مسؤولياتنا الوطنية. فكل مجتمع أو مجموعة أو مركز يحتفظ ببعض من خصوصياته وتراثه وعاداته وتقاليده. وسلب تلك الخصوصية بأي شكل من الأشكال يمكن ان يؤثر على تنوع المجتمع ويحول تلك البوصلة من عملية التنوع إلى الاختلاف.
لهذا فإننا في هذا الوطن المعطاء مطالبون بالحفاظ على خصوصيات الآخر واحترامها كما أننا مطالبون على بقاء التنوع ضمن منظوماتنا الإنسانية الوطنية التي هي أساس ذلك الانسجام والتناغم. وكي لا تقتحمنا تلك الشوائب التي تعيق رؤيتنا وتعبث بسيمفونيتنا فنحن بحاجة دائمة إلى وقفات مراجعة نؤكد بها على الحفاظ على هذا التنوع في أبهى صُوَرِه... فلنعد النظر!.