الأربعاء، 22 فبراير 2012

المكتبات العامة بين الرؤية والتطبيق

تعالى رب العالمين الذي أمر رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقرأ بقوله سبحانه: «إقرأ». تلك الكلمة الجليلة العظيمة التي هزت العالم الإسلامي بولادة علوم ورؤى وآفاق وفلسفة ورؤية ...

تعالى رب العالمين الذي أمر رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقرأ بقوله سبحانه: «إقرأ». تلك الكلمة الجليلة العظيمة التي هزت العالم الإسلامي بولادة علوم ورؤى وآفاق وفلسفة ورؤية أمدت القاصي والداني بعوامل التطور والنمو. لم تكن تلك الكلمة إلا فعلا متحركا في وجدان العالم الإسلامي وفق إيقاعات مختلفة ومتنوعة فكانت منها المكتبات العامة التي هي بحق فخر للمسلمين ومداد استلهم ازرقاقه من بحر كلمات ربهم العليم التي لا تنفد. فسطع نور عدد من المكتبات في الدول الإسلامية منها مكتبة بيت دار الحكمة في بغداد ودار كتب مدينة رام هرمز على شاطئ الخليج ودار البصرة اللتان أسستا في زمن الدولة البويهية.
وأيضا تم تأسيس مكتبة دار العلم بمصر واحدة وببغداد الأخرى وقد تولى الشريف المرتضى إدارة الأخيرة وكان أبو العلاء المعري يقصدها. وتأسست في مدينة طرابلس مكتبة بني عمار التي أحرقها الصليبيون عندما احتلوا طرابلس عام 502هـ الموافق 1009 م. وقد وصل عدد الكتب إلى بضعة ملايين في بعض من هذه المكتبات. ولم تكن هذه المكتبات مقتصرة على فئة أو طبقة من طبقات المجتمع بل كانت منارا وإشعاعا يهدي الجميع.. فكانت بحق «نورا» كما وصف العلم بالنور.
هذه الحركة الإسلامية في رفد المجتمع الإسلامي بالمكتبات هي تكملة لذلك الأمر الإلهي «إقرأ». ولأن الأمر الإلهي لم يأت إلا صدى للفطرة البشرية فتواصلت العقول الطامحة والحالمة بالتغيير في شتى بقاع الأرض بالعمل على فتح المكتبات العامة حتى تكون منارا هاديا ونورا ينتشل مواطنيها من براثن الجهل إلى نور العلم. فافتتحت العديد من المكتبات في شرق العالم وغربه. فيذكر أنه في القرن الثامن عشر والتاسع عشر بدأت المكتبات العامة تنتشر في العالم الغربي وروسيا.
لم تكن فكرة نشوء المكتبات سواء في عالمنا الإسلامي أو العالم الغربي أو الشرقي إلا وفق رؤية وتصور واضحين في أن المكتبات ما هي إلا وسائل تهدف إلى خلق جيل يقرأ ويتعلم من والديه كيف يتعامل مع الكتاب ويتناول الكتاب ويتفاعل معه. وهدف المكتبات العامة هو خدمة جميع فئات المجتمع وليس فئة عمرية معينه لأن الهدف الأساسي من المكتبة هو توفير الكتاب الجيد وتنمية حب القراءة عند الأطفال والذي لا ينمو إلا بوجود نموذج جيد يقتدي به الطفل ويسير على خطاه. فيتفاعل الأب مع ابنه والجدة مع حفيدتها والكبار مع الصغار في البحث عن الكتب ثم يتجه كل نحو القسم المختص به من المكتبة ويشتركون في نقل معلومات أو تبادل خبرات. أما تخصيص مكتبه لفئة عمرية ما (خصوصا في بلد تندر فيها المكتبات العامة) واقتصار الاسم على فئة عمرية معينة فليست بالرسالة التربوية الشاملة وإنما رسالة نختصر بها عملية القراءة والكتاب على تلك الفئة. وهذا يخالف الإطار الفكري والتربوي لأهداف المكتبة كما أنه يفتقد إلى الأساس التربوي في أنه يرسل رسائل غير إيجابية للطفل مفادها أن هذا شأنك وليس شأن الكبار! فالمكتبات المتخصصة في الدول التي لها رؤية واضحة في عمل المكتبات لا تجدها إلا تابعة للقطاع الذي تعنى به.. فمثلا مكتبات الأطفال (ودون تسميتها مكتبة للأطفال) تكون تابعة للمدارس او لكليات التربية. أما المكتبات العامة فهي تحوي كتبا لجميع الأعمار ومختلف التوجهات والفئات. والكتاب الذي تطلبه قد يأتيك من أي بقعة من بقاع الأرض كما حدث معي حين طلبت كتابا من احدى مكتبات ولاية فرجينيا وبعد ثلاثة أسابيع وجدت ان الكتاب تم جلبه من دولة أخرى.
وتتعدد اهتمامات المكتبة ورسائلها الايجابية للأفراد والمجتمعات، فهي تعتبر محطة للتفاعل الاجتماعي والثقافي من خلال جلسات القراءة على مستوى الأطفال والكبار أو مناقشة حدث ثقافي .. إلا إن رؤيتها تظل ذات خصوصية تختلف عن رؤية التجمعات الاجتماعية الثقافية أو غير الثقافية الأخرى كالنادي أو المقهى أو الملتقيات الأخرى. فرواد المكتبة هم رواد للكلمة ، والمقاهي والكفتيريات ليس لها موقع داخل المكتبات العامة وإن كانت المكتبات التجارية قد احتضنتها رغبة في استقطاب المشترين.
وحين ننظر إلى المكتبات العامة في الدول المتقدمة نراها تقع في قلب الحي أو قرب مناطق التجمعات السكانية أو بعض من المجمعات التجارية حيث تسهل حركة الارتياد الى المكتبة ولا تشكل عملية زيارتها عبئاإضافيا في جولات الشخص. فعلى سبيل المثال، يعتبر يوم السبت يوما للمكتبة لدى معظم الأسر الأمريكية حيث يحمل الوالدان أكياسهما القطنية مصطحبين صغارهما في جولتهما التي تضم المكتبة العامة. ويشكل موقع المكتبة أهمية كبيرة حيث إن الموقع هو الذي يشكل في الكثير من الحالات نقطة استقطاب وعاملا محفزا للأسرة. فحين أتصور إنشاء مكتبة لمنطقة بوشر مثلا، أجد ان تلك الحديقة العامة التي تكاد تخلو من أطفالنا قرب سوق الخوير أو في أي موقع مشابه قرب الشارع العام أو قرب الأحياء السكنية، يعتبر أكثر المواقع استراتيجية. ولا تكون المكتبة منزوية على تلة بعيدة عن الأحياء السكنية.
إن مفهوم ورؤية إقامة المكتبة هي رؤية فلسفيه علمية تربوية تتضمن الكثير من المضامين. فصرف ملايين الريالات على مكتبة واحدة تلبي طلبات فئة عمرية محدودة ليست من الأفكار التي سوف تجد لها صدى بين أقوام أرادوا ورأوا في المكتبة فكرا مبدعا وعلما متحركا. فهذه الملايين التي رصدت لمكتبة واحدة لفئة عمرية واحدة كان الأولى صرفها في إقامة عدد من المكتبات العامة لجميع الفئات في أجزاء مختلفة من الوطن أو من العاصمة. فالمكتبة لا بد أن تكون فاعلة في حياة أطفالنا جميعهم وليست مفعلة للزائرين والوافدين والأعلام أو تتحول إلى مقهى للشباب .... فلْنُعِدِ النظر!.