الاثنين، 12 ديسمبر 2011

آفاق ضيقة

تقودك بعض العقول سواء تلك التي يعشعش فيها ضيق الافق أم تطغى عليها التقليدية أم تلك التي ما برحت تردد بعضا من الكلمات التي سمعتها منذ الأزمنة الغابرة الى السؤال: كم يغير العلم من قناعاتنا وأفكارنا وممارساتنا؟


تقودك بعض العقول سواء تلك التي يعشعش فيها ضيق الافق أم تطغى عليها التقليدية أم تلك التي ما برحت تردد بعضا من الكلمات التي سمعتها منذ الأزمنة الغابرة الى السؤال: كم يغير العلم من قناعاتنا وأفكارنا وممارساتنا؟
في عام 2009 بينما كنت في جامعة فرجينيا بالولايات المتحدة، دعيت الى الحديث عن المرأة في الاسلام، وكان حديثي حول أسباب النظرة غير العادلة للغرب عن المرأة في الاسلام و حقوقها. حينها قلت: لو أنني اقتصرت على إدراك ماهية الإنسان في البلدان الغربية من خلال المعلومات البسيطة التي استقيتها من الأصدقاء أو من مشاهدة أفلام هوليود لكنت ما زلت تحت وطأة ذلك الأفق الضيق. ثم حكيت لهم قصتي:
في اليوم الأول لوصولنا (أنا وأسرتي) الى الولايات المتحدة لأول مرة، كنا قد حجزنا غرفتين في الفندق، والتي تم تغييرهما الى غرفة مزدوجة بعد رفضي الشديد فصل أولادي عني في غرفة منفصلة. في تلك الليلة قلت لزوجي: كيف لي أن أتركهم في غرفة منفصلة ونحن في أمريكا حيث كل شخص يحمل مسدسا؟ نظرتي الضيقة تلك لم تكتف بذلك بل تعدت إلى أنني كنت أنظر الى كل أمرأة ورجل في ذلك البلد على انهم بلا قيم أسرية. وتخوفاتي ممن حولي أضاعت على أطفالي الكثير من الفرص حتى فرصة الاستمتاع بحلويات «الهلوين» التي من الممكن (من وجهة نظري الضيقة في ذلك الوقت) أن تكون محتوية على سموم العصر. هذه النظرة الضيقة للعالم الغربي في ذهني كان انعكاسا للإعلام من ناحية ولبعض التجارب السيئة التي سمعنا عنها عن أناس عاشوا في بعض البلدان الغربية فجرفتهم الحياة الى مهالكها. وأوردت لهم مثالا آخر من واقعهم عن ضيق أفق البعض منهم في نظرتهم تجاه المرأة المسلمة وحقوقها (المهدورة) والتي لم تقتصر على السذج وغير المتعلمين من الغربيين فحسب، بل امتدت الى النخب المتعلمة. فسردت عليهم قصتي مع مجموعة من طلبة الدكتوراة من جامعة أخرى من الجامعات الأمريكية حيث عرضت على هؤلاء الطلبة ضمن نشاط في التفكير الناقد (Critical Thinking) عدة صور لنساء عربيات، وسألتهم: «أية صورة من هذه الصور تعكس ما في ذهنك من تصور حول المرأة العربية؟» معظمهم اختار صورة المرأة ذات العباءة السوداء التي لا يرى منها سوى عينيها. حدث ذلك وأنا أمامهن بهيأتي أمثل المرأة العربية المسلمة. وحينما سألتهم: « لماذا؟» أجابوا: «إن هذا ما تعودنا رؤيته كلما ذكرت المرأة العربية.»
وختمت حديثي لهم بالاشارة الى ان انفتاحي على من حولي وفهمي للمجتمع وأفراده وتقبلي للآخر على أنه أخ لي في الانسانية هو الذي جعلني أعيش في دياركم كأنني بين أهلي واحبتي أحن إليهم واشتاقهم. لقد عشت مع الشعب الامريكي محترمة قيمهم و معتقداتهم كما أردت منهم ان يحترموا قيمي ومعتقداتي فكنا اخوة في الانسانية.
مما نعاني منه في عالمنا العربي والإسلامي كما هي الحال في العالم الغربي هو عملية التعميم و ازدواجية التفكير. فنحن في هذه الأمة تحت وطأة تيارين: فتيار أولئك الذين يرون كل ما في الغرب خيرا وازدهارا وتيار أولئك الذين اقتصرت الشبكية لديهم على رؤية السواد الحالك فيمن حولهم. في إحدى المحاضرات التي حضرتها مؤخرا، أراد المحاضر أن يضرب مثلا حول أهمية الاسترخاء في حياة الإنسان وضرورة التوازن بينه و بين العمل. ولكي يقرب الفكرة، ضرب مثلا حول مواقف الرئيس الأمريكي السابق «جورج بوش» في عدم تفويته فرصة الإجازة أو الاسترخاء حتى في أوقات الحرب. فبينما رحى الحرب تدور في عاصفة الصحراء الثانية عند احتلال الكويت، كان سيادة الرئيس يقضي اجازته في كامب ديفيد. وكان الأولى بدكتورنا أن يستحضر هذا المثال لتوضيح انعدام المسؤولية عند هذا الرئيس أو القائد لربما كان قد اصاب. أما نحن فأمثلتنا تأتينا من واقعنا العربي الإسلامي فمثلا في حرب إسرائيل على لبنان في يوليو 2006 قرأنا أن حسن نصر الله أمين عام حزب الله صام طوال مدة الحرب (33 يوما) تأسيا بالمجاهدين في الجبهات ضاربا بذلك خير مثال لقائد ومسؤول.
أما أولئك ضيقو الأفق تستغرقهم الازدواجية فيعيشون قصر النظر الذي يمنعهم من استيعاب الصورة كاملة. فهم ان استوعبوا الاشياء القريبة منهم فاتهم البعيد وان استوعبوا ما بعد عنهم فاتهم القريب. وحتى يتم تصحيح تلك الرؤية لا بد من وضع الأمور في إطارها الصحيح. كما أن التعميم آفة أخرى من الآفات التي يعانون منها والتي هي نتيجة طبيعية لقصر النظر من جهة و لقلة اطلاع من جهة اخرى فهم يسمعون بأذن واحدة وينظرون للاشياء بعين واحدة ومن ثم يعجزون عن تحليل الصورة غير المكتملة. يحكى عن محمد باقر الصدر (أحد مراجع ومفكري المسلمين في العراق) أنه حين كان يزوره شخص عائد من الدول الغربية فإنه يطلب منه بشغف أن يسرد عليه كل ما شاهده وسمعه وتعلمه من هناك.. ضاربا بذلك مثلا في: «الحكمة ضالة المؤمن...».
فالسؤال: ما هو تأثير العلم في حياتنا و فهمنا و تفكيرنا؟ و السؤال يكون أكثر الحاحا حينما يكون الطرف الآخر مسلما يدعي اتباعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم و قيمه و مبادئه. فالدين الإسلامي أتى بقيم التمعن والتدبر و قبول الآخر والعقلانية وعدم التعميم و الكثير من الأخلاقيات التي تعلمناها و نفتقدها في ممارساتنا وسلوكياتنا.. وأخيرا، دعانا الله عز وجل الى: «لا يجرمنكم شنآن قوم ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى.» فالعدالة في جميع مناحي الحياة مطلب إلهي.. فلنعد النظر!.