السبت، 12 مايو 2012

اللغة صورة للوطن

اثناء تجوالك وتنقلاتك بين الدول العربية أو غير العربية.. وخاصة في الدول التي تكثر إليها هجرة الجاليات العربية هل صادفت شخصا وبدأت تخمن عن أصله؟ ما المعايير ....


اثناء تجوالك وتنقلاتك بين الدول العربية أو غير العربية.. وخاصة في الدول التي تكثر إليها هجرة الجاليات العربية هل صادفت شخصا وبدأت تخمن عن أصله؟ ما المعايير الأولية التي اعتمدت عليها في تخمينك؟ فهل شدتك ملامحه وشكله فخمنت أنه عربي وشرقي رغم انك قد تجده أشقر الشعر أزرق العينين أبيض البشرة؟ أم أنك تحديت بشكل أكبر فاستخدمت قدراتك التخمينية حول أصل الشخص فقمت بتحديد جنسيته بأن قلت: هو «مصري» أو إيراني أو «عماني» أو «كويتي» أو «لبناني» مع أن مواطني بعض هذه الدول بينهم الكثير من أوجه الشبه نتيجة للتزاوج والتفاعل الاجتماعي بمختلف ألوانه؟ يؤثر التفاعل الاجتماعي بين المرء والمحيط الذي يعيشه بشكل كبير في تشكيل الكثير من الخصال الشخصية للمرء بحيث أصبح بالإمكان الاستدلال من خلال هذه الخصال عن هوية الشخص وأصله. عموما... بعد تخمينك (وهذا ما يحدث معي كثيرا) هل حاولت اكتشاف صحة التخمين .. وذلك من خلال الحديث المباشر مع الشخص؟

تشكل اللغة العامل الأكثر أهمية للتعرف على الشخص. فلغة الشخص هي المعيار الأهم الذي من الممكن الاستدلال من خلالها على أصل الشخص. فأثناء حديثك مع الأشخاص بلغة غير لغتهم، كالإنجليزية مثلا.. تستطيع أن تكتشف من خلال لكنته التي تختلف باختلاف لغته الأم. فلكنة العربي (مثلا) حين يتحدث الانجليزية تختلف عن لكنة الإيراني ولكنة الهندي تختلف عن لكنة التركي أو الإفريقي و... أما إذا كان الفرد يتحدث الانجليزية باعتبارها اللغة الأم له فسؤالك البسيط يتوجه إليه بشكل مباشر إما حبا في التعارف أو انطلاقا من فضول ما: من أي بلاد أنت؟

هذه الاختبارات الذاتية التي أجريها على مقدرتي في معرفة الأشخاص تفشل أحيانا أمام أولئك الأشخاص الذين يحملون جنسية بلد ما ولا تستطيع تخمين أصولهم لا من شكلهم ولا من لهجتهم وهو ما يثير الاستغراب. فبغض النظر عن الشكل الذي يتأثر بالعوامل الوراثية للأفراد لكن طريقة اللبس والحركة تتأثر بالمجتمع، والمسألة الأكثر حساسية هي مسألة اللغة واللكنة التي هي الصورة الأكثر ظهورا والتي تعبر عن فخر المرء بأصله وبالجنسية التي يحملها.

هناك العديد من النظريات التي طرحت في الولايات المتحدة في القرن السابع عشر أو الثامن عشر والتي تدعو إلى ما يسمى بنظرية (Melting pot). هذه النظرية الاجتماعية والتربوية تدعو إلى صهر جميع الثقافات المهاجرة إلى الولايات المتحدة في ثقافة واحدة تتلخص في ثقافة الشخص الأبيض. إلا أن هذه النظرية غير المنسجمة مع التكوين النفسي والاجتماعي للأفراد والأمم وتاريخهم وعاداتهم وتقاليدهم تضاءل تأثيرها في سبعينات القرن التاسع عشر. فبدأ مهاجمة هذه النظرية ورفضها من قبل المثقفين لما لها من تأثير في ضياع هوية الفرد أو الشخص. وبدأ المثقفون ينادون بضرورة احتفاظ الأفراد المهاجرين بعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم، إلا انهم في المقابل كانوا مطالبين بإتقان اللغة الانجليزية كلغة التواصل بين جميع فئات المجتمع. من هنا نرى أن جميع من يعيش في الولايات المتحدة سواء كانوا من أصل آسيوي أو إفريقي أو عربي أو هندي أو غيرهم لا سيما من الجيل الثاني فإنهم يتحدثون الانجليزية بطلاقة ومن غير أي إيحاء بأصولهم رغم احتفاظ معظمهم بلغتهم الأم. والأشخاص الذين تربوا وترعرعوا في الولايات المتحدة تستطيع أن تميز من خلال لكنتهم أو أسلوب حديثهم عن هويتهم. وهؤلاء الأشخاص هم من يعبرون ويمثلون أوطانهم.

في زيارة إلى إحدى الدول الغربية التي تتحدث بغير الانجليزية كانت مفاجأة لي بأن أرى أن الجيل الناشئ الذي يلوك الانجليزية ويتكلم بالعربية المكسورة أو المتزاوجة بالانجليزية في البلاد العربية، تجد نفس هذا الجيل في تلك الدولة الغربية غير قادر سوى بالتحدث بكلمات بسيطة باللغة الانجليزية رغم الجذور المشتركة للغتهم باللغة الانجليزية كونهما ينبعان من الأصل اللاتيني. وإذا أجلنا النظر إلى ما حولنا فنرى أن هذه الدولة الصهيونية التي قامت حديثا أجبرت جميع معتنقيها بالتحدث بلغتها العبرية وعدم السماح لهم بدخول الجامعة إلا إذا اجتازوا اختبارات اللغة. وجميع الدول التي لها تاريخ وحضارة ما زالت تعتز بلغتها الأم حتى تلك التي استعمرت لسنين فإن أبناءها يتحدثون بلغتهم الأم بطلاقة كدول المغرب العربي رغم التأثيرات التي يتركها المستعمر على المستعمر. إن الهنود رغم تحدثهم المستمر باللغة الانجليزية إلا أن كل فرد منهم يجيد أكثر من لغة من لغات بلده ويتقن كتابتها والقراءة بها. أمام هذا الواقع العالمي الذي يعكس مدى انسجام المرء مع لغته وثقافته ترانا (نحن العرب) نحتل المقاعد الخلفية في الاهتمام بلغتنا العربية. بينما اهتمام تلك الدول نابع من ايمانها بأن اللغة الأم ولغة الوطن هي المرآة الحقيقية لثقافتهم.

الاهتمام باللغة الأم لا ينفي أو يتنافى مع ضرورة القدرة والسعي نحو تنمية قدرات المرء في التحدث والتعامل بلغات أخرى، لكن الانتقاص وعدم الاعتزاز باللغة الأم كما هو حال مع الكثيرين منا (أعني العرب) له علاقة بسيكولوجية الشخص. تكلم ما شئت من لغات ولهجات ولكن ليكن لك اعتزاز بلغة قومك ووطنك.. وكن لها خير سفير! نلاحظ انه في المحافل الدولية، يعتز كل فرد بلغة الوطن الذي ينتمي إليه ويتحدث بها بطريقة تتناغم مع هويته الوطنية. ونادرا ما نرى أي مواطن أو مسؤول يتحدث بلغة غير لغة وطنه أو يتحدث بها بطريقة مكسورة تنم عن عدم مقدرته أو ضعفه .. فحتى الأمريكيين من أصول يابانية والذين هاجروا إلى الولايات المتحدة أو الأفارقة أو العرب .. فإنهم يتحدثون باللغة الانجليزية وبلكنة أمريكية واضحة في المحافل الدولية أو حينما يمثلون وطنهم (أعني الولايات المتحدة) . فأسلوب الكلام وانسيابية اللغة من الأمور الأساسية في عملية التمثيل.. وتعكس تلك الانسيابية فخر الأبناء بانتمائهم الوطني.. فحتى سفيرة مملكة البحرين في الولايات المتحدة وهي من أسرة يهودية فإنها تتحدث بلهجة بحرينية وبلغة عربية صحيحة.. فاللغة العربية لغة ذات حضارة وتراث وتجاهلها من خلال تمثيل من هم أقل كفاءة في التحدث بها (وخاصة في المحافل الدولية وفي التجمعات على مستوى الدول) تجاهل لمقومات حضارة أمة .. فاللغة هي عنوان وطننا وقيمه وأصالته والمحافظة عليها وإبرازها بأكمل وجه هو إبراز لتلك القيم ولذلك التراث... فلْنُعِدِ النظر!