الأحد، 30 مارس 2014

بين الأول والأفضل!

ما هو الفرق بين الأول والأفضل؟

 حسب علوم الرياضيات والأرقام والأعداد فإنّ الأول يقيس السرعة والأسبقية بينما الأفضل يقيس النوعية. الأول صيغته أقرب ما تكون إلى الكمية والتي تقاس دائمًا بصيغة السبق الأول ...


ما هو الفرق بين الأول والأفضل؟
حسب علوم الرياضيات والأرقام والأعداد فإنّ الأول يقيس السرعة والأسبقية بينما الأفضل يقيس النوعية. الأول صيغته أقرب ما تكون إلى الكمية والتي تقاس دائمًا بصيغة السبق الأول والثاني والثالث إلى ما لا نهاية. أما الأفضل فينتمي إلى النوعية والتي لا يعنيها الكمية والسبق بقدر ما يعنيها المحتوى والمستوى والرقي! وكلا الكلمتين لهما مضامين ومصاديق في حياتنا. فكلمة "الأول" دائمًا تذكرني بتصرف الأطفال حينما يتسابقون في إنهاء وجباتهم الغذائية أو الوصول إلى السيارة. ويعتز الأطفال بكلمة "الأول" كثيراً فتجدهم يقولون بتباهٍ: "أنا الأول"! أما النوع فهو من شأن الكبار الذين لا ينجرون كثيرًا للسبق بقدر انجرارهم للنوع.
للأول في عالم الكبار مراتب تأتي ضمن منظومات متعددة الأوجه والدرجات. فأحياناً يكون "الأول" بمعنى الأول في طرح فكرة أو الأول في تحقيق إنجاز مهم، فهو بهذا المعنى الإنسان الأول على وجه هذه الخليقة الذي حقق إنجازا لم يحققه من كان قبله. وقد يكون الأول ضمن دائرة جغرافية محددة وبهذا لا يكون الأمر أكثر من أن تلك الفكرة التي طرحها، واعتُبر الأول في طرحها، كانت صدى لأفكار إنسانية انبثقت في بقعة جغرافية أخرى من بقاع الأرض فتمّ تطبيقها في هذه البقعة أو تلك. فالأول بهذا المعنى أن الفكرة لم تكن من الأفكار النادرة المبدعة بقدر ما كانت من الأفكار الإنسانية التي استنسخها هذا الإنسان من بقعة أخرى من بقاع الأرض، إنها صورة من صور التكامل الإنساني لإعمار هذه الأرض.
في واقعنا العربي نعيش زهوة الشعور بالأسبقية على المستوى السطحي البسيط. فلا نستطيع التفاخر بأن لدينا أول رجل صعد على سطح القمر أو أول اكتشاف في حقل علمي أو تربوي ما. فلسنا الآن، وبكل أسف، في وضع نستطيع فيه التباهي بابتكار أفكار مدهشة أو علوم مبدعة كما كنّا أيام ابن سينا والفارابي والكندي وجابر بن حيان وغيرهم من علمائنا المبدعين الأجلاء. فلهذا انحصر تباهينا بالكم أو الأسبقية بمستواها البسيط لأنّه أكثر وضوحًا وتجليًا. فيسرنا أن نتباهى دائمًا بأننا الأول في تحقيق الإنجاز (أ ، ب، ت..)، كأن نقول: "أول من تخرج في الجامعة الفلانية" أو "أول من كتب في المجال العلاني"، لكننا في خضم تلك المفاخرة التي ترتكز على الأسبقية ننسى أن نختبر أو نقيس النوعية. فما زالت الأمور الصغيرة تبهرنا في مسيرتنا البطيئة لملاحقة الأمم المتقدمة!.
واقع الدول المتقدمة أو الصناعية يختلف عن واقع العالم العربي فهو يهتم بنوعية العمل ونتائجه أكثر من الاهتمام بعملية التسابق لتحقيق مراكز موهومة. ففي العالم المتقدم يتم التطرق للإنجازات من خلال رصد أرقام إحصائية أو دراسات معمقة معتبرة وفق معايير علمية، يكون الهدف منها هو الانفراد بالأفضلية وبالتالي التنافس للبقاء على الأفضلية.. فرسالتهم لأنفسهم وللآخرين: "نحن الأفضل"! قد يكون هناك من هو الأول.. لكن السؤال الأهم هو: هل أنت الأفضل؟.
موضوع الأول والثاني والثالث يخرجنا خارج الإطار الإسلامي الإنساني الذي يركز على عملية "اتقان العمل". يقول الإمام علي (عليه السلام) "إنّ الله يحب أن يرى أحدكم إن عمل عملا أن يتقنه". فالتركيز الأساسي هو على نوعية العمل وإتقانه سواء كنت أول شخص قمت به أو كنت آخر شخص. لإتقان العمل أبعاد إنسانية عميقة تتصل بحياة الإنسان بجميع أجزائها. من إحدى جماليات نتائج إتقان العمل هو أن العمل يقدم في صيغ إنسانية راقية تتجانس مع فطرة الإنسان المتعلقة بالكمال والجمال وتنميها ضمن أسس سليمة. وهذه التنمية التلقائية للفطرة الإنسانية هو ما يتطلع إليه إنسان العالم المتقدم الذي يرى أن الأعمال لابد أن تتصف بـالإتقان. وفي المقابل فإنّ من أسوأ نتائج إهمال عملية إتقان العمل هو فقد ذلك الإحساس الفطري العميق المفعم بالجمال والكمال أو تشويهه!.
التربية العربية، بكل أسف، لم تولِ اهتمامها لاستثمار فطرة الإنسان العربي لتأصيل فعل الإتقان وإنما العكس هو ما حدث. لقد أصلت التربية العربية فكرة "الأول" بمفهومه السطحي البسيط في ذات ووجدان الطفل العربي. فلم نكن نسمع كلمات مثل "عمل مبدع" أو "عمل متقن" أو "عمل راقٍ" خلال سني المدرسة، وإنما كل ما كنّا نسمعه هو أن "(فلان أول واحد خلص)".. وذلك هو الثاني.. فالرسالة التي وجهت للطفل أن الأول هو الأفضل بغض النظر عن النتائج لأنّ المعلمة والأم والجميع أشاد به. لكن هل هناك من أشاد بعملية الإتقان أو جمالية العمل؟ لهذا من النادر أن تجد في مؤسساتنا من يهتم بنوعية العمل وإبداعه وجماليته!
إنّ قائمة الأوائل المبدعين والمبتكرين في الحياة واضحة لا لبس فيها. ولكن، لمعرفة الأفضل فإننا بحاجة إلى معايير واضحة ودقيقة ومتجانسة مع العقل والفكر والعلم. وهذه المعايير الدقيقة هي التي تساعدنا على اختيار أجمل امرأة رغم أن مقاييس الجمال مقاييس موضوعية، أو أفضل طبق رغم أن التذوق مسألة نسبية!
الإبداع والجمال والذوق هي صناعة اجتماعية بيئية، فإذا لم تتوفر للطفل البيئة التي يرى فيه الجمال والإبداع والبساطة المنسابة كانسياب قطرات الندى الطرية، فعالم إبداعه لن يكون سوى مثل شطحات الموج الشاذ بعيدًا عن جوقة التناسق الحركي للأمواج المتجانسة. إن صناعة الإبداع مسؤولية اجتماعية إنسانية تتكاتف فيها التربية مع المجتمع والأسرة، ولن يتحقق ذلك إلا عندما يتم التركيز على تفضيل النوع على السبق. فحينها ستتألق كلمات الإبداع والابتكار والإتقان في فضاءاتنا الرحبة، فنرفرف حينها في عالم متألق من الجمال والكمال. ومن أجل ذلك .. فلنعد النظر!