الاثنين، 14 أبريل 2014

لكم دينكم ولي دين!

 جبلت الفطرة البشرية على الكثير من القيم الإنسانية، إلا أن هناك مؤثرات لا يمكن تجاهلها في تحوير تلك الفطرة على ضوء الحديث الشريف "وإنما أبواه ينصرانه أو يهودانه". فهذه الفطرة ...



جبلت الفطرة البشرية على الكثير من القيم الإنسانية، إلا أن هناك مؤثرات لا يمكن تجاهلها في تحوير تلك الفطرة على ضوء الحديث الشريف "وإنما أبواه ينصرانه أو يهودانه". فهذه الفطرة تخضع و تتشكل بتأثيرات عدد من المتغيرات أهمها البيئة التي يتربى فيها الطفل والتي تتمكن من طمس فطرته وتغيير أو تحريف الأسس العقلية والمنطقية التي جُبل عليها. فما يبدو لنا قناعة منطقية قد لا تبدوا للآخر. فالمسلم قد يستغرب كيف يقدس الهندوس البقرة أو كيف يعبدون الأصنام، والهندوس بدورهم يستغربون كيف نعبد إلها لم نره! هذه الاختلافات سواء كانت اختلافات عقائدية أو اختلافات في الممارسات أو غيرها لم تدفع أقواما (في الهند على سبيل المثال) للاقتتال أو التنناحر على النحو الذي يحدث في العالم العربي، كما أنها لم تشكل عقبة أمام توحد المجتمع الأمريكي المتعدد القوميات و لم تجعلهم يتناحرون بالرغم من أن هناك نماذج في كثير من بقاع العالم شبيهة بالأصناف المتناحرة في العالم العربي.

"لكم دينكم و لي دين" هي الأية السادسة من "سورة الكافرون".  يذكر العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان في أسباب نزول هذه السورة، أنه كما ورد: "في الدر المنثو، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن الأنباري في المصاحف عن سعيد بن ميناء مولى أبي البختري قال: لقي الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل و الأسود بن المطلب و أمية بن خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد و تعبد ما نعبد و لنشترك نحن و أنت في أمرنا كله فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظا و إن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظا فأنزل الله » قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون «حتى انقضت السورة." ويضيف الطباطبائي أن وضع هؤلاء الناس يختلف عن بقية الكفار في قوله تعالى "قل يا أيها الكافرون" الظاهر أن هؤلاء قوم معهودون لا كل كافر و يدل على ذلك أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطبهم ببراءته من دينهم و امتناعهم من دينه."

يعرض الوضع العالمي أمام الإنسانية صورا متعددة للتعايش بين البشر منها صورتان متضادتان. هاتان الصورتان، إحداهما تمثل التعايش السلمي بين الآسيوي والأبيض وغيرهما من الأجناس والأقوام المختلفة. والصورة الأخرى تظهر التحارب والتناحر بين أفراد الأمة الواحدة، أعني الأمة الاسلامية. هذه الحالة من التناحر بين أفراد الأمة الاسلامية تتنافى مع المفهوم الاسلامي للتعايش السلمي المتجلى في سورة الكافرون. فرغم الاختلاف و التنازع في أمر الاله الخالق إلا أن الاسلام أقر بأهمية الاحترام واقرار حق كل فرد في أن يعيش حسب اختياره وقناعاته "لكم دينكم ولي دين". وهذا الإقرار الإسلامي ينطلق من أن لكل إنسان قناعات وخيارات في هذه الحياة يعيش وفقها بحرية من غير الاعتداء على حرية الآخرين وهذا ما يسمى بلغة العصر "الاحترام المتبادل".

مفهوم الاحترام المتبادل من المفاهيم التي يتربى عليها الإنسان ويتم تأصيلها عبر المناهج الدراسية ووسائل الإعلام. في الولايات المتحدة لا يُدرس الدين كمادة دراسية بحد ذاتها إلا أنه يمكن للطالب أن يدرس و يعرف عن الأديان بالعمق الذي يطمح له بشتى الأشكال. ففي حصص التاريخ أو الجغرافيا يمكنك التحدث عن فلسطين أو عرض مجسم عن الكعبة المشرفة كما يمكن للآخر التحدث عن الإرهاب الإسلامي أو عرض نجمة داوود. هذا الانفتاح على الآخر هو الذي يؤسس لعملية الاحترام ويؤصلها كما أن القوانين ألزمت الآخر بحدود يعاقب عليها الفرد إن تجاوزها.

ومن المفارقات أنك حينما تصادف في يومك مسلما فبدلا من أن يشعرك ذلك بالسعادة تتمنى أنك لم تصادفه. فالبعض بمجرد أن يعرف أنك ملتزم بشرع الله في طعامك يتباهى أمامك بأكل لحم الخنزير ويسرد على منصتيه متطوعا بأصناف أطباق لحم الخنزير التي يحبها. وفي الجهة المقابلة حينما توضح للقائمين على مؤتمر ما (من غير المسلمين) عن عدم قدرتك مشاركتهم في الطعام بسبب كؤوس الخمر على الطاولة فإنك تسمع ردا: "إن مشاركتك تسعدنا أكثر من تناول الخمر"! احترام قيم الآخرين هو احترام للآخر لهذا هم استطاعوا ان يتعايشوا و خسرنا نحن التعايش السلمي!

لكن.. لماذا خسرنا هذا التعايش السلمي ضمن نظام إسلامي متكامل؟

هناك العديد من الأسباب أولها الأنظمة السياسية. لقد خلقت الأنظمة السياسية الكثير من المعوقات التي تنسف أسس التجمع وتؤسس للتفرقه منها التركيز على المسميات و القبائل. مع أن الله سبحانه أشار في القرآن الكريم :" وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ"، إلا أن هذه المسميات للشعوب و القبائل أسست لعملية الخلاف و التناحر والتباهي. كما أن المناهج الدراسية الضيقة الأفق المستندة على طرح رأي شريحة واحدة فقط لا تستطيع جذب أو استيعاب الآخر الذي يعيش على نفس أرض الوطن، لأنها تخدم فئة معينة لا تؤمن بوجود الآخر و لا تعترف بأهمية ما يؤمن به. ولضيق المناهج أضحت النفوس أضيق على احتضان الآخر. من جهة أخرى فإن المعارض الدولية للكتب تسمح أو يتم فيها تشجيع انتشار الكتب التي تكفر الآخر و تهاجم ما يؤمن و يعتقد به على أساس أن مذهبا واحدا فقط يمتلك الحقيقة التي من المفترض الإيمان بها. وأخرون يؤسسون لمناهج دراسية تغرس في الطفل منذ الصغر أسس تكفير الآخر الذي يشاركه في عبادة نفس المعبود و يتوجه لنفس القبلة ويعيش معه على نفس الأرض ويشاركه اللغة والقومية. ناهيك عن الاعلام فالإعلام الرسمي في مثل هذه الدول يحد من التضامن مع الأقليات أو نشر مقال بمناسبة دينية تهتم بها شريحة واحدة رغم ان المناسبة تعني جميع المسلمين، لأن القائمين على الإعلام لا يفقهون! إلى جانب هذه العوامل يأتي العامل النفسي الذي يكشف عن ذاته بمجرد أن نجد بأن الآخر يحمل فكرا مخالفا أو مغايرا لما نحمله فنبدأ بعملية الإقناع وعرض ما لدينا: "نحن، وفقط نحن، على صواب!. الجميل في الأقوام الأخرى على المستوى العام (من غير الولوج في عالمهم التبشيري) هو أنهم لا يحاولون إقناعك بما لديهم بل تقبلك كما أنت انطلاقا من "لكم دينكم ولي دين"!

إن عملية تكفير الآخر أو تقبله كما ذكرنا يتم التأسيس له على عدد من الأصعدة إلا أن من أهمها كما يذكر أن "الرعية على دين ملوكها". و تأثير الملوك أو السلطات هو الذي يظهر الفرق بين مدى وجود التسامح الديني أو عدمه بين بلد أو آخر. إن انتشار التكفريين والمنتحرين بين بعض المذاهب وفي بعض الدول سببه الأساسي هو التشجيع الذي يتلقونه من مشايخ الدين أو من حكوماتهم. وهذا التشجيع يتكامل مع الأسس التي تم غرسها في ذلك الصبي أو تلك الصبية أثناء سني الدراسة.

هذه الفلسفة الاسلامية "لكم دينكم ولي دين" تجلت تطبيقاتها بين الكثير من أتباع الأديان الأخرى وفي العديد من الممارسات سواء كانت على مستوى الكنائس أو الأنشطة الإجتماعية أو الثقافية في العالم الغربي. فالاحترام هو أساس التعامل، وجعبتي تختزن الكثير من القصص والتجارب الشيقة التي تجعلني أعيش أملا في أن أسمع و أرى قصصا و تجارب مماثلة في بلداننا العربية.  وفي هذا السبيل فعلينا اقتناص اللحظات و الدقائق من أجل التأسيس لوقفات لابد منها من أجل..إعادة النظر!