السبت، 4 يناير 2014

التعليم.. وأولوية إعادة النظر!

تمضي السنون والأيام حاملة معها آمالنا وأحلامنا.. طموحاتنا وتصوراتنا.. هواجسنا ومخاوفنا. تكشف لنا غموضا كان يشوب حياتنا أحيانا وتفسر لنا أحداثا كنا نقف أمامها متسائلين...

تمضي السنون والأيام حاملة معها آمالنا وأحلامنا.. طموحاتنا وتصوراتنا.. هواجسنا ومخاوفنا. تكشف لنا غموضا كان يشوب حياتنا أحيانا وتفسر لنا أحداثا كنا نقف أمامها متسائلين. مضت الأيام متشعبة تخط لنا طرقا تتشعب إلى اتجاهات مختلفة بعضها لم نتمناها أو نخطط لها وأخرى وجدنا أنفسنا فيها وأخرى فرضت علينا وبتنوعها وتشعبها تنوعت أفعالنا وخططنا وأهدافنا! أمامها جميعا قلنا «ما شاء الله وما أراد فعل».. لكن تظل تلك الهواجس والمخاوف والأماني تقتحم ساحات تفكيرنا أحيانا وتستنهض هممنا أحيانا أخرى أو تمسد على رؤوسنا على أمل غد أفضل!
في كل عام هناك أحداث تولد وأخرى تنتهي أو تتلاشى كما هو حال الإنسان تماما. بعضنا يستقبل الحياة والآخر يودعها وكلاهما (لحظات الوداع ولحظات الاستقبال) تصطحبان معهما مشاعر وهواجس مختلفة. حينما نسترجع أيام سنتنا التي مضت نسترجع معها صرخات وآهات وآلام ومعاناة أطفال ونساء وشيوخ.. حجر وشجر.. بحار وأنهار.. رمال ووديان، فجميعها عاشت معاناة ما! نسترجع صور دماء متناثرة ورؤوس مقطعة وأجساد مشوهة ورصاصات طائشة نالت من هذا أوذاك على الهوية. فسياط لهيب تلك العذابات ما زالت تكوي جلودنا التي التهبت من أثر تلك الصور اللانسانية. ولكن.. فلْنُبْقِ كلماتِنا مستبشرةً بالخير! ولهذا فقرارنا لهذا العام الجديد أن نصيغ من تلك المعاناة لطائفَ خيرٍ لتُروي لنا عامنا القادم بأمل حياة أجمل.
أمل الحياة الأجمل لعام قادم يستوطن في كلمة جميلة تنشدها صغيرةٌ ذات جدائل سوداء منتشية بكتابها الأول الذي عانقته يداها. أمل الحياة لعام قادم يخطه قدم طفل صغير يركض داخل ساحات واسعة خلف كرة تستهدف رميتها عالما يفتح له آفاق كلمة طيبة تأطرت ب «اقرأ»!
كلمة اقرأ.. تختزل الكثير من المعاني السامية وتتقاسم حب الحياة والعطاء والعمل. إلا أنها تناشدنا أن نؤطرها بورود ورياحين.. ونغدق عليها مسكا وعنبرنا ونرطب منبتها بقطرات الندى وعبق الياسمين. لأن الأشواك الذميمة غير عابئة بخشونة التربة أو قحط الماء فهي لا تتوالد إلا في أرض مهملة لم يُعتنَ بها.
عامنا المنصرم حمل الكثير من أشجان تلك الكلمة التي عاشت زمنا شحيحا حينما تخلف عنها ركب المعلمين من جهة والمسؤولين من جهة أخرى. أشجان تلك الكلمة مازالت تبحث لها عن متنفس لتنطلق رامية بدثار بال من الممارسات التي عفن عليها الدهر. صغيرتنا ذات الجدائل السوداء وصغيرنا بكرته الدائرية ما زالا يستحثان المسؤولين في تفعيل كلمة «اقرأ». وعملية التفعيل تلك هي كما لخصها الإمام علي (كرم الله وجهه) في نهج البلاغة في ثلاثة أسس يتسم بها المعلم وهي:
1)
من نصب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره.
2)..
وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه.
3)..
ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم.
هذه الأسس الثلاثة تركز على أهم مقومات التعليم والتعلم والتي (مع الأسف) تكاد تكون مفقودة في عالمنا العربي والإسلامي. وبالنظر في الأحداث الجارية في العالم العربي بشكل خاص تجد أن عملية الانفصال بين النظرية والممارسة بلغت أوجها. وهذا الانفصال يرجع بشكل كبير إلى الأسلوب التعليمي والتربوي في مدارسنا ومراكزنا التعليمية. فهناك نقص في فهم ووعي لمضمون العملية التعليمية، ناهيك عن البيئة المدرسية الفقيرة في إمكاناتها، وعن الممارسات اللاتربوية المتمثلة في إبعاد الكفاءات وإقرار المحسوبيات أحيانا من خلال عملية تقريب أشخاص واستبعاد آخرين، وعن الفقر في أداء بعض المسؤولين تجاه العملية التعليمية. العملية التعليمية (ومع الأسف الشديد) تم تحجيمها في شهادات ونسب يتنافس الطلبة على إحرازها. وهذه الطريقة في التعليم أوجدت جيلا يُعني بالدرجة الأولى بحفظ نظريات ومعلومات من غير فهم عميق لها أو مقدرة على استيعابها ضمن الأحداث الحياتية. ومن جهة أخرى فإن هذه الممارسات أيضا أنجبت متعلمين فاقدين لأهم مقومات المتعلم وهو الوعي والإحاطة بالحياة ومتغيراتها. فلهذا شهدنا إنجرار البعض وإنشدادهم تجاه قيم خاوية شيطانية. إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه: إن الإنجرار إلى تلك الاتجاهات التي تفتقر للوعي فتكفر الآخر ولا تحترم سوى وجهة نظر واحدة، ثم ترى في القتل والتدمير بابا يوصول إلى الجنة، لم يقتصر وجودها في العالم العربي وإنما وُجد أيضا في الغرب بنسبة أصغر، رغم أن أساليب التعليم والتعلم الغربية تختلف عن أساليبنا في العالم العربي، فما هو تفسير ذلك؟
واحدٌ من ألد أعداء الفكر البشري هو ضيق الأفق، وبالتالي أخذ النصوص والتعاليم الدينية مأخذ المسلمات. أثناء دراستي للدكتوراه في الولايات المتحدة كان لدي استبانة تحاول استكشاف أساليب تعليم الموهوبين التي يتبعها المعلمون في المدارس الإسلامية في الولايات المتحدة. من بين التعليقات التي وردتني تعليق أشار إلى أن الاستبانة ساعدت المعلم أوالمعلمة في تطوير أساليب التدريس لأنه فتح أمامهم أبوابا لم يكونوا ملمين بها في مجال التحليل والسؤال والاستنتاج في مجال التعليم الديني. كما أن التعليق أشار إلى أن المشكلة التي يواجهها المعلمون في تلك المدارس بشكل كبير هي عدم إمكانية مساءلة بعض الأحاديث والأقوال التي يتنافى مضمونها مع الفكر الإنساني والمنطق. لأن عملية مناقشة تلك الأحاديث والأقوال تعد كفرا ويتهم المناقش بالتجني على الدين. ولهذا فإن حدود العملية التعليمية في المجال الديني ينحصر في تقبل النصوص على أنها مسلمات لا مجال لاستخدام العقل والمنطق تجاهها. وهذا ما يتنافى مع التعليم من وجهة النظر القرآنية التي تؤكد: «قل سيروا في الأرض ثم انظروا..» أو يركز على أهمية التدبر والتفكر « أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها». وهذه البيئة التلقينية في التعلم في محيط التعليم الديني خلق إعاقة في العقل البشري أقعدته عن إمكانية التفكر والتمعن والتدبر. والتركيبة الإنسانية التي تتكون من العواطف والمشاعر وعقل معوق توجد منبتا سيئا لجميع تلك الأفكار الشيطانية لتنمو وتنتشر حالها حال خضراء الدمن. لكن في المقابل فإن أسس التربية السليمة التي نفتقدها في تعليمنا والتي تتفاعل وتفعل العقل فإنها تخلق عقولا مثلها مثل:«الشَّجَرَة الْبَرِّيَّةَ أَصْلَبُ عُوداً» أو «َالْرَّوَائِع الْخَضِرَةَ أَرَقُّ جُلُوداً» أو «النَّابِتَات العِذْيَة أَقْوَى وَقُوداً، وَأَبْطَأُ خُمُوداً» كما جاء في نهج البلاغة. التعليم كان وسيبقى في العالم العربي والإسلامي واحدا من الأولويات على المستوى النظري ولكن في هذا العام ليكن من أولى الأولويات على المستوى العملي. ولهذا يقتضي منا عمليا أن نقوم بعملية.. إعادة النظر!