الثلاثاء، 24 ديسمبر 2013

بين الداخل والخارج.. مُعادلة إرادات!

أقررنا بكل فخر ما أقرته حكومتنا الرشيدة. أعلنا بكل عزم: "خلف قرارات قيادتنا نسير". جزمنا بكل ثقة بصوابية تلك القرارات. فهل كان ذلك مصادفة، أو كان تعبيراً عن صورة الانسجام الطبيعي بين القيادة والشعب...


أقررنا بكل فخر ما أقرته حكومتنا الرشيدة. أعلنا بكل عزم: "خلف قرارات قيادتنا نسير". جزمنا بكل ثقة بصوابية تلك القرارات. فهل كان ذلك مصادفة، أو كان تعبيراً عن صورة الانسجام الطبيعي بين القيادة والشعب، أو أنه كان تلبية لمتطلبات الشعب ضمن برنامج استفتائي، أو إنه الهوى المُشترك الذي جدَّف بذلك القارب نحو المضيق الهرمزي المؤدي إلى خليجنا العربي ليُعلن أن "المصير مشترك"؟.. إنه المصير المشترك الذي أوجد عملية التماهي بين القيادة والشعب في أسمى صورها؛ سواءً حينما أعلنت السلطنة رفضها الانضمام إلى الاتحاد، أو حينما أرادت السلطنة إقرار فلسفة "البناء وليس الهدم" ركنا من أركان سياستها.. لم يكن للصدف دور، وإنما الفراسة في قراءة واقع المنطقة من جهة، والمنطق الإنساني في الالتزام ضمن الدائرة الإنسانية الأشمل من جهة ثانية؛ فالإنسان جزءٌ من منظومة إنسانية يتعايش معها. ولهذا لاقت السياسة الخارجية للسلطنة كلَّ الترحيب من شعبها.
 
الإنسان جزءٌ من منظومة إنسانية تضم الإنسان الآخر والأوطان الأخرى، لكنه أيضًا جزء من منظومة أكبر وأشمل وهو الكون الذي خلقه الله -سبحانه وتعالى- ضمن معادلة التوزان.. تعرض معادلة التوازن الكوني الكثير من الصور التي تتحقق فيها الموازنة من أجل عملية استمرار الكون، وهذه الصور تتجلى في تلك الذرات الكونية الصغيرة التي تشكل الكيان البنيوي للكون بما يشمله من أرض بفضائها وتركيبتها ونسبة الغازات فيها، وكواكب ونجوم ومجرَّات، والتي تشكلت جميعها في منظومة متكاملة ومتوزانة. وقد نصَّت الآيات القرآنية على هذه الحقيقة الجوهرية كما في قوله تعالى: "وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ" (الحجر:19). ومعادلة التوازن لم تقتصر على المظاهر الطبيعية في الكون، وإنما تجلت في المنظومة الاجتماعية الإنسانية من خلال التكامل بين مختلف الصيغ الحياتية المتمثلة في الهيئات والحكومات والأنظمة وأشكال التعايش المختلفة بين بني البشر. وقياسا على هذه الحقيقة الجوهرية، فإننا في هذه الحياة البشرية لا يمكننا أن نفصل بين المتغيرات الحياتية بخطوط: "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله". كما أننا لا يمكننا أن نفصل بين تأثيرات مصطلحي "الداخل" و"الخارج" اللذين وجدا لتسهيل عملية التعامل بين المتغيرات الحياتية المختلفة، لكن ومع الأسف، أوجد هذا التقسيم شرخًا في التزاوج بين تلك المتغيرات وعقمًا في إنتاج يكفل التكامل في حياة البشر. كما أنه يُهيِّئ لفجوات تساهم في حالة اللاتوازن بين ما نعيشه في الداخل وما نشهده على الساحة الخارجية.
أشرتُ في بداية مقالي هذا إلى بعض الحقائق التي عكست الصوت الواحد المتجانس بين القيادة والشعب، وأوجدت وحدة وتكاتفا قلَّما نجد لها نظيراً في عالمنا العربي والإسلامي. وهذا ما يدعونا إلى رفع أيدينا بالشكر لله على أن الكثير من المقومات التي تجمع هذا الشعب وحكومته وقيادته متوفرة بشكل كبير. وهذا يجعلنا نشعر بالاطمئنان بأن السياسة الداخلية تتجه لتحقيق التوازن مع السياسة الخارجية الحكيمة التي رفعت شأن عُماننا الحبيبة. وإن الخلل الذي نجده في الداخل جرَّاء الفساد الإداري والمالي لبعض المسؤولين، إن تم التعامل معه بحزم وعدالة مساو لحجم الفساد، فلن يُشكل عائقا في تحقيق عملية التوازن التي ننشدها بين السياستين الداخلية والخارجية.
 
لقد أقرَّ القرآن الكريم حقيقة الفساد والمفسدين التي تخلخل معادلة التوازن في حياة البشر في قوله: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(الروم:30)". فتأثيرات الفساد كبيرة وفادحة وتخل بقوانين التوازن الكوني والإنساني. وحالة اللاتوازن التي نشهدها على صعيد الوضع الداخلي هي نتاج أيدي المفسدين من أبناء هذا الوطن ومن الوافدين الذين لابد أن يواجهوا إرادة صلبة تتخذ من القصاص منهم حياة لتحقيق التوازن.
 
لكنْ، ما هو مستوى عملية مكافحة الفساد التي نشهدها في واقعنا الحالي؟ هل تعكس هذه الخطوات طموحات الشعب؟ أم هل تعكس عملية الانسجام التي شهدناها على المستوى الخارجي؟ هناك العديد من الأسئلة المطروحة في ظل الوضع الداخلي الحالي الذي يحاول تلمس مواضع الضعف في السياسة الداخلية على مدى الاعوام الماضية. وهذه الخطوة في الكشف عن -ومحاربة- الفساد والمفسدين الذي كبدوا الوطن خسائر مادية وخسائر في القيم والأخلاقيات أتت في ضوء الانفتاح العالمي والوعي والإرادة الوطنية لأفراد الشعب. إلا أنها لم تتمكن حتى وقتنا الحالي من أن تعكس طموحات الشعب ورغبته في بتر أيدي الفساد؛ فالعقوبات المقرَّة على العديد من هؤلاء المفسدين أتت أقل بكثير من الأضرار التي ترتبت على تصرفاتهم اللاأخلاقية في تعاملاتهم التجارية وغير التجارية. والتجاوزات المادية التي تم الإعلان عنها ما زالت أقل بكثير عما يتداوله المواطنون عن مؤسسات حولت المال العام والمناصب إلى دُوَلَةٍ بين المعارف والأهل منهم.
 
فعملية انتظار مقاضاة وإقرار القصاص العادل على المسؤولين الفاسدين الذين تعرَّشوا على قمم المؤسسات لدهور طويلة، لم تجد لها سبيلاً حتى الآن؛ فرياح التغيير ما زالت قاصرة عن أن تجد لها منفذا نحوهم. ولعل ذلك بسبب نقص في الإرادة الوطنية أو تقصير عن توليد قدرات جديدة كما أشار إلى ذلك جودت سعيد.
 
تطرق المفكر جودت سعيد في كتابه "العمل قدرة وإرادة" إلى المزاوجة بين مفهومي "الإرادة" و"القدرة". وهذه المزاوجة بين
هذين المفهومين تعكس صحوة المجتمع والأمة. فصحوة المجتمع ترتبط بإرادات الأفراد التي تتجاوز ذواتها لتشمل الآخرين فيرتبطون جميعا بإرادة واحدة وهدف واحد في بحثهم عن الهدف الأعلى والذي يعكس ثقافة الأفراد في المجتمع. ثم يشرح جودت سعيد عملية التزاوج تلك مبينا أن "القدرات هي التي تكشف أهمية الإرادات، والإرادات هي التي تبعث على طلب القدرات. فقدراتك على التمييز بين الخطأ والصواب تجعلك تريد الصواب.. وإرادتك الصواب تحملك على السعي لاكتساب قدرات من أجل تحقيقه".. والإرادة الوطنية العمانية تحمل الكثير من القدرات التي تساعدنا على كشف إرادات صالحة في سبيل العلو بالوطن وإقرار التوازن بين السياستين الخارجية الحكيمة والشأن الداخلي، إلا أن هذه الإرادات -بدورها- تدفعنا إلى المطالبة بتحصيل قدرات أكبر وأعظم للسير إلى الأمام؛ من أجل إنتاج إرادات كفيلة بردع الفساد والمفسدين. وسوف نظل بحاجة إلى إنتاج إرادات وقدرات تؤهلنا لإيجاد توازن عادل من غير تمايز في عملية الكشف عن المفسدين من أفراد الشعب ومن غير استثناء أي منهم. فأي تقصير في عملية الكشف هو تقصير في حق الوطن والأمة وإرادتها والتي لا يجب لها أن "تبقى... عزلى عن قدرتها وتبدأ في الضمور"؛ ولهذا.. يقتضي الأمر إعادة النظر!