السبت، 30 مارس 2013

البقاء في الهامش.. إلى متى؟ -2

 
قبل عدة أيام قال لي ابني ذي الأثنى عشر عاما: "من أجل أن نحقق تعليما جيدا في السلطنة نحن بحاجة إلى منهج قوي و معلم متمكن".  هززت رأسي مؤيدة حديثه.. فحديثه ...
 
قبل عدة أيام قال لي ابني ذي الأثنى عشر عاما: "من أجل أن نحقق تعليما جيدا في السلطنة نحن بحاجة إلى منهج قوي و معلم متمكن".  هززت رأسي مؤيدة حديثه.. فحديثه كان نتاج عدد من التجارب التي مر بها بسبب انتقاله بين مدارس مختلفة في أكثر من دولة و ولاية. تجربة هذا الفتى الصغير أهلته أن يلاحظ ذلك الضعف الذي يحيط بمناهجنا كما أن تفاعله مع معلمين شتى من مختلف الجنسيات أمدته برؤية أهمية درو المعلم في العملية التعليمية. ثم واصل حديثة قائلا: "لو أنهم يدفعوا للمعلم رواتب أكبر لكنا نحصل على معلمين جيدين".
صحيح أن الدراسات توضح أن الراتب الشهري لا يشكل أهمية كبيرة في رفع رضى المعلم إلا إذا تم تجاهل النظر الى المعلم باعتباره "إنسان".  فهذا العامل الأكثر أهمية و الذي غفلنا عنه و لم يدركه هذا الفتى الصغير،  و الذي ليس من الصعب ان يدركه أي شخص تربوي  هو "أن المعلم إنسان". و هذه النظرة للجانب الإنساني للمعلم و الإحساس بها هي التي حدت دولا كثيرة في العالم (و التي حصدت أفضل النتائج في الاختبارات العالمية) أن تولي لهذا العامل أهمية كبيرة. و أيضا حينما ننظر الى أهمية أو عدم أهمية الراتب من وجهة النظر التربوية فإنها تعتمد كثيرا على عدد من العوامل الاخرى. من هذه العوامل التي تحدد إن كان الراتب مهما هو عملية المساواة بين الوافد و العماني. فالوافد على سبيل المثال في بعض المدارس الخاصة يتقاضى راتبا أكبر مما يتقاضاه المعلم العماني  رغم تساوي مؤهلاتهم. فهو يحصل على بدل سكن و تذاكر و علاة رسوم مدارس الابناء و غيرها.. و لكن العماني ليس له من ذلك اي نصيب فجلدته قد أحرقتها الشمس و تراثه قد قيده بأسماء عربية أصيلة و طباعه تعكس الوطن و عاداته و تقاليده و قلبه يتقطر ألما من أجل أطفال عمان و هذه الأمور لا تشفع له بتقاضي راتب مساو لغريمه الوافد! أيضا قد تتضاءل أهمية الراتب عند المعلم حينما يشعر بحرص الوزارة و المسؤولين و بإيمانهم بأن المعلم كائن إنساني له أحاسيس و مشاعر و احتياجات، و بأن التعامل معه يتم  وفق تلك المسلمات. حينها تتحول هذه المهنة الشاقة (مهنة التعليم) إلى مهنة يستمتع بها من يمارسها. أما حسب واقعنا الحالي ، فكل معلم (مع الأسف) سيحكي لك عن تلك الاحباطات التي يعيشها. و هذا ما حدا بالكثيرين للانتقال من مهنة التعليم الى مهن إدارية في الوزارة أو في أماكن أخرى قد تقتضي منهم الانتقال من أماكن سكناهم أو السفر يوميا لمسافات لم يعتادوها، لكن ذلك أهون الشر بالنسبة لهم.
قبل عدة أيام وصلني عبر قنوات التواصل الاجتماعي رسالة موجهة الى وزيرة التربية و التعليم، الرسالة كانت تعكس الألم الذي تعيشه أو يعيشه ذلك المعلم. شعرت بعد قراءتها بألم و حزن و حنق ذلك المعلم ذكرا كان أو أنثى. و لأنني كنت معلمة فكنت قادرة على فهم تلك المشاعر التي تتحول من مشاعر هادئة و طيبة الى مشاعر متأججه و محتقنه. تلك الرسالة و ما قبلها من رسائل كلها تدل على أن المعلم في تلك المدارس ليس سوى منفذ  لما تأتيه من قرارات و من غير أن  يوضع له أي اعتبار أو رأي. و لم يكن يوما مستحقا لأي نوع من المكاقآت الكبيرة التي يتم توزيعها بين الإداريين من مدراء العموم و من على شاكلتهم و من غير أدنى تفكير و لو لثانية في حالة ذلك المعلم و همومه و متطلباته.
بعد هذه الندوة التي نافشت بصورة سطحية نتائج الاختبارات العالمية سمعنا كثيرا عبارة: "إعداد المعلم." لكن ما هو المقصود من عبارة (إعداد المعلم) هذه؟  البعض قال أنها عبارة عن: "إقامة حلقات عمل مستمرة للمعلمين و ربطها بالمخرجات التعليمية." و آخرون حاموا أيضا حول نفس النقطة. لكن لم يذكر أحد أهمية الاهتمام بالمعلم كانسان.. بالمعلم كصاحب قرار.. بالمعلم كمربي.. و غيرها. نعم تحدثوا عن الاهتمام برفع القدرات العقلية العليا للطلبة .. و نسوا أن واحدة من أهم مكونات تلك القدرات هو القدرة على اتخاذ القرار و الثقة بالنفس. و لتنمية تلك القدرات فلا بد أن تكون عند الطلبة إمكانية ممارسة اتخاذ القرار. لكن حينما تسلب الوزارة قدرة المعلم من اتخاذ أي قرار أو المشاركة فيه ، فهل فاقد الشيء يعطي؟ 
في مقالي المنشور في جريدة عمان بتاريخ 20/7/2011 ، تحت عنوان: "المعلم الصوت المفقود"، قلت:"لقد تطرقت جريدة  USA Todayإلى الأسباب التي أدت الى تطور التعليم في فنلندا وتقدمها على التعليم في الولايات المتحدة وعلى الكثير من دول العالم. وأول الأسباب التي تم التطرق اليها هو المعلم. فقد ذكرت الحريدة بأن فنلندا تتعامل مع مهنة التعليم بأسلوب متحضر يرفع من شأن المهنة ويجعلها من المهن التي يتسابق عليها المجيدون والقديرون. فيتم اختيار الشخص الأكثر تميزا ليكون معلم الغد ويظل مدعوما بشكل متواصل وبمختلف الوسائل لاستمرار نموه المهني. و لأن التدريس والتعليم من المهن التي تستهلك الفرد فإنه من أجل مراعاة المحافظة على راحة المعلم واستمرار عطائه، يتم تخصيص أكثر من معلم واحد في كل صف ليلبي احتياجات الطلبة الأقل مستوى. وقد أولت الدولة الفنلندية اهتماما خاصا بالتعليم و التدريس برفع قدر ومنزلة المعلم بحيث أصبحت مهنة التعليم من المهن التي تستقطب احترام وتقدير المجتمع، فيتم التعامل مع المعلمين كالأبطال الذين خاضوا الحروب. فيشير كاتب المقال في الجريدة مقربا صورة المعلم الفنلندي للقارىء الامريكي في أن المعلم في فنلندا يعامل كما تعامل الولايات المتحدة مواطنيها الشجعان في السلك العسكري..."  
فهل المعلم العماني ضمن خطط الوزارة بهذا المنوال حتى يؤدى الى ما من شأنه ارتفاع مستوى الطلبة في الاختبارات العالمية القادمة؟ أم أن كل ما تفكر فيه الوزارة هو (مثل ما سمعنا مرارا و تكرارا) أن يتم دارسة أسئلة هذه الاختبارات و أساليب التقويم المستخدمة  ثم تبدأ عملية تلقين تلك الاختبارات و أساليب و طرق حلها لطلبتنا.. فتتحول تلك الاختبارات من وسائل الى أهداف.. و من مستويات قياس إلى هدف تتمحور العملية التعليمية حوله و تسير المدارس و المناهج  وفقه؟  و حينها سندرك المثل القائل: أرادوا أن يكحلوها فعموها!..