السبت، 15 ديسمبر 2012

الأرض لا يمكنها إلا أن تكون كروية -2

تنوع الحياة واختلافها لم يقتصر على التنوع في الأشكال والألوان واللغات والأحجام، وإنما تعدى إلى ما هو أهم من كل ذلك، إنه التنوع في العقول والأفكار...
 
http://main.omandaily.om/node/118818
تنوع الحياة واختلافها لم يقتصر على التنوع في الأشكال والألوان واللغات والأحجام، وإنما تعدى إلى ما هو أهم من كل ذلك، إنه التنوع في العقول والأفكار والذي هو الجوهر الأساسي لما وصلت اليه الإنسانية من سمو حضاري. وهذا التنوع العقلي الذي انعكس بشكل كبير على ما حققته الإنسانية من إنجازات علمية وتطور صناعي ساهم أيضا في التطور والتقدم على الصعيدين الخلقي والوجداني. وهذا التقدم الإنساني سواء أكان تقدما خلقيا أو علميا أو صناعيا فإنه لم يؤخذ على طبق من ذهب. فجاليليو أعدم لأنه قال بأن "الأرض كروية". والتاريخ يخبرنا عن الكثيرين من أمثال جاليليو الذين ثبتوا على قناعاتهم وعن الكثيرين ممن أعدموا وحوربوا وممن صمدوا على مبادئهم ومعتقداتهم التي آمنوا بها. فأساس هذا التطور الإنساني كان وما زال يكمن في كلمة واحدة لها عمق البحار وسعة الأكوان إنها "الحرية". وهذه الحرية التي أكرمنا الله بها وأمرنا ديننا الإسلامي الحنيف بالتمسك بها والثبات عليها من خلال رموزها الخالدة (لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرا)، (متى استعبدتم الناس وقد خلقتهم أمهاتهم أحرارا) تشكل محور الوجود الإنساني وانطلاقته.
ومفهوم حرية الإنسان يتمثل في حرية التفكير والتعبير سواء من خلال الكلمة المكتوبة أو الملفوظة أو من خلال الفنون الانسانية بمختلف أشكالها كحنظلة ناجي العلي (على سبيل المثال) الذي هز أركان الدولة اللقيطة فتم اغتياله. وهذه الحرية الإنسانية مكفولة بكل صيغها من خلال جميع الأنظمة الإنسانية التي ترى أن الإنسان طاقة لا يمكنه الخضوع أمام ما يخالف المنطق والعقل.. ولا القبول بما لا يتوافق مع مبادئه والقيم التي يؤمن بها. الا ان الحقيقة التي أقرها الله سبحانه وتعالى بالنسبة لهذا الانسان تتمثل في اختلاف الناس عن بعضهم بدرجات. وهذه الدرجات التي ترتبط اكثر ما ترتبط بالمعيار العلمي والفكري فقد قال تعالى: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات". فالعلماء هم اكثر الناس وعيا وفهما واستيعابا لأحوال البشر ولأسس التغيير. وحينما نتحدث عن العلماء والمفكرين نجدهم ينقسمون إلى فئات مختلفة، لكن العلماء والمفكرين الحقيقيين هم أولئك الذين أشار اليهم الباري تعالى، أما الباقون فينقسمون - كما وصفهم الإمام علي (كرم الله وجهه) في نهج البلاغة: "متعلمون على سبيل نجاة أو همج رعاء".

وحينما نقول ان الانسان طاقة فهدير هذه الطاقة الانسانية أعظم من تلك الشلالات التي نقف أمامها بخليط من مشاعر الخوف والدهشة. ففي احدى حلقات العمل عرضت صورة لشلالات نياجرا التي يقف المرء مشدوها أمامها إلا عن قول "سبحان الله". فقد عرضت صورة تلك الشلالات على مجموعة من المشاركين في حلقة العمل تلك. ثم طلبت منهم ان يصفوا لي مشاعرهم تجاه صورة الشلالات الهادرة. وبدأت عملية الوصف لتعكس مشاعر الانبهار والحب والعشق والشعور بقدرة وقوة الخالق. وما أن انتهو من ذلك العالم المعبر بجمال وجاذبية تلك الشلالات، قلت لهم بعدها: والآن أريد من كل واحد منكم أن يتصور نفسه وهو يسقط في مياه تلك الشلالات.. صف لي مشاعرك؟ عم الصمت وتغيرت تلك المشاعر الانسانية الناعمة الى مشاعر أخرى تتسم بالخوف والرهبة صاحبتها ملامح الوجه التي تغيرت الى اجفان مرتفعة وأفواه مفتوحة! كل هذا حدث أمام مشهد من مشاهد عظمة الخالق التي هي مسيرة بطاقة لا تمتلك قيادها بنفسها.. بينما نجد ان طاقة الانسان هي طاقة ملك ارادته وقدرته وهذا ما يشير اليه الامام علي (كرم الله وجهه) في قوله: "أتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الاكبر". إن عملية تقدير هذه الطاقة الإنسانية لا يمكن أن تتم إلا من قبل أمة تؤمن بأن الله خلق الخلق لتطوير هذا الوجود أو لدى أمة تؤمن في طاقات الانسان المتمثلة في العقول المبدعة ! ابداع العقل البشري في أي مجال كان سواء في الأدب أو الشعر أو الرواية أو الرسم أو الإنجازات العلمية لا يمكن تحققه بمنأى عن إحساسه بالحرية. ذلك لان الحرية لا تقوم فقط بعملية تأطير العمل وحمايته ليولد بعيدا عن اية عقبات، وانما هي تهيئ كذلك الأجواء التي تتوافق مع كينونة الإنسان وقدرته على قول الحق الذي لا يتنافى مع المبادئ العامة للمجتمع، فيكون اقدر على انتاج افكار مبدعة والتصريح بها من غير خوف أو وجل. ففي اجواء الحرية تسود العدالة وحينما يتساوى الناس في إطار "لا فرق بين عربي أو اعجمي إلا بالتقوى" تكون الكفة لاولئك المثابرين ذوي الإبداعات الحقة.. فتعيش الشعوب حينها حالة الرقي والتقدم. وحينما تقر أساليب التعامل وفق مفهوم الحرية ووفق المبادئ الانسانية العادلة يجد كل فكر حر طريقة للعطاء والنمو والابداع، لأن العدالة في التعامل هي المفتاح الذي يدير عجلة الركب المبدع.. ومن غيرها ستبقى أممنا عرضة لكل قناص. هذه المفاهيم السامية تتكامل ضمن منظومة اجتماعية إنسانية تجد في كل فكر وطاقة نعمة الهية وهبة ربانية لابد من قطف ثمارها. وهذه المنظومة الاجتماعية تنطلق من حرص وطني على ان الاوطان لا تنمو الا على أكتاف أبنائها وطاقاتهم. وحرص أبناء الوطن على الوطن وسمعته وسلامته. الحرية والعدالة والمنظومة الاجتماعية هي الثلاثي الذي تعمل جميع الامم المتطورة على تأصيله والتأكيد عليه ضمن مفاهيم المواطنة الصالحة التي لابد من العمل من أجل غرسها في المواطن منذ الصغر.

ان الحالة العربية (مع الاسف) مساراتها في هذا المجال سوداوية الأفق. فتعاملها مع علمائهم ومفكريهم ومثقفيهم ومتعلميهم لا تتسم بالعدالة والإنصاف. وهذه الحالة هي السبب في هروب العلماء من اوطانهم تارة أو انزوائهم تارة اخرى. فلا عجب أن نرى انفسنا في آخر قوائم المبدعين أو المخترعين لاننا من الأمم التي تعودت أن تعيش معتمدة على غيرها من الأمم. وهذه الحالة العربية تجاه العلم هي التي تحرص عليها بعض الحكومات لأنها هي من تؤسس للجهل والجهال بشتى ألوانهم! ولكن لحسن الحظ ولا عجب أن نجد أن علماءنا ومفكرينا المخلصين ما زالوا يحاولون أن يتصدروا حلبة الرأي الحر ليعبروا عن حاجاتهم وحاجات مجتمعاتهم. فالإنسان الذي ذاق حلاوة الرأي الحر أو التعبير البناء الذي يهدف إلى تأسيس مجتمع سام لا يمكنه أن يستسلم لسياسة التجهيل من خلال كبت حريته أو قتل ابداعاته. فسحرة موسى على سبيل المثال لم يستسلموا للتخويف والموت رغم تهديد فرعون لهم بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وانما مارسوا حريتهم فاتبعوا الحق وآمنوا بموسى وقالوا لفرعون: "اقض ما أنت قاض".

ان السنن التاريخية والكونية تقضي بأن تنتصر المبادئ الحقة وتعلو كلمة الحق والعلم والمعرفة وأن العلماء والمفكرين الذين حملوا هموم مجتمعاتهم وأوطانهم لابد انهم سيهتفون بكل حرية ومن غير خوف أو وجل بأن الأرض كروية.. لان الأرض لا يمكنها إلا أن تكون كروية!.. ولهذا نأمل في أن.. نعيد النظر!.