الأربعاء، 21 نوفمبر 2012

الشاعر هلال البوسعيدي يرثي أبا الشهداء

(المقال الذي اعتذرت الشرفات في جريدة عمان عن نشره)

 

تختلط المشاعر و الأحاسيس أمام الأحداث التاريخية التي تتميز بأنموذجها الفريد. و فرادة هذا الأنموذج يقوم على عدد من المقومات منها عملية الإنسجام الراقية ...

http://www.alroya.info/ar/citizen-gournalist/citizen-journalist-/43844
    تختلط المشاعر و الأحاسيس أمام الأحداث التاريخية التي تتميز بأنموذجها الفريد. و فرادة هذا الأنموذج يقوم على عدد من المقومات منها عملية الإنسجام الراقية التي تتعانق المبادئ فيها مع الأقوال لتخلص بالتالي إلى أفعال سامية و مُثُلٍ عُليا. أمام هذه المشاهد و الأحداث التاريخية تقف العقول المستنيرة متأملة في السنن الكونية و مستخلصة منها نتائجا و دروسا و عبر. كما تقف عقول و أفهام أخرى أمامها لتستلهم منها رَوْحانية و وُجدانية  تنصهر فيها مشاعر الحب و الولاء و العلياء. إلا أن انصهار الشعراء مع تلك المشاهد و الأحداث التاريخية يتجلى في تشكل كلماتهم في معان و ترانيم تبقى آثارها وديعة في ثنايا القلوب .. قلوب شتى. و من بين تلك الأحداث الإنسانية الخالدة و المتجددة في وجدان كل محب لمحمد و آله تأتي فاجعة كربلاء التي كتب عنها الكثير من الشعراء بغض النظر عن معتقداتهم الدينية، لأن فاجعة كربلاء كانت مقاييسها متنوعة بتنوع الأطر السامية فكانت إنسانية و أخلاقية و دينية و وجدانية و غيرها.

هذه الفاجعة الإنسانية ألهمت ما لا يعد و لا يحصى من الشعراء الذين عانقت مشاعرهم و احاسيسهم تلك الفاجعة. و من هؤلاء الشعراء الذي انصهرت روحهم و صقلت قريحتهم بترانيم الرثاء في سبط المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم هو الشاعر العماني الفذ هلال بن بدر البوسعيدي في قصيدته " سبط خير الأنام". فقد تناول السيد هلال فاجعة كربلاء من عدة زوايا.

الزاوية الاولى: فاجعة انسانية. و في هذا المضمار أشار السيد هلال الى الخطْبِ الجلَلْ حيث قال:
                رُوِّعَ الـكونُ أرضُه و السـمــــــــــــــــاءُ         يوم ضـجت بخطـبها كـربلاء
                يا لَخـطب من دونـه كلُّ خطب          ومـصاب قـد عز فيه العــــــزاء
                لبـس الـدهـــــر فيه ثـــــــــــــــوب حداد         فهــو والـدهـر مـا له انـضــــــــــاء

فواقعة كربلاء كانت فاجعة بكل المقاييس الإنسانية حيث تمثل فيها فريقان أحدهما تعداده ثلاثون ألف مقاتل بينما لم يتجاوز عدد فريق سبط رسول الله  صلى الله عليه و آله و سلم المائة.  و رغم قلة العدد إلا أن روح معركة بدر تجلت في أصحاب الحسين فاستبسلوا استبسالا قلَّ نظيره في التاريخ. فهذا مسلم الأسدي يتقدم إلى الميدان فاديا بنفسه قائدَه و وصيتُه الوحيدة و هو في رمقه الأخير: "أوصيك بهذا أن تقاتل دونه حتى تموت" مشيرا الى الإمام الحسين، فيرد عليه صاحبُه حبيب: "لأُنعِمَنَّك عيْنا يا مسلم". و ذاك الغلام اليافع الذي تقدم الى الإمام الحسين متقلدا سيف والده الشهيد، فيقول عنه الإمام الحسين: "هذا شاب قُتِلَ أبوه، و لعل أمه تكره خروجه". فيرد الغلام على الإمام: "سيدي، إن أمي هي التي قلدتني حمائل سيفي و أمرتني بذلك".

الزاوية الثانية: فاجعة عاطفية. وصور العاطفة متعددة إلا ان أرقها هي التي تتعانق فيها القيم والمبادىء بالقلب والروح فتتشكل بها في مقلة العين تلك الدمعة الحزينة التي لا تعرف إنْ كانت تبكي ألمَ إنسانٍ ام قتْلَ قيمةٍ إنسانية أم تنعى رسولَ البشرية في مصرعِ حفيده. و هنا يقول السيد البوسعيدي: 

ليت شعـري وهل يبلغني الشعر         مقــــامـا يجـــــــــود فـيــــــــــه الـرثــــــــاء
إنـمــــا غـايـتـــــــــي رثــاء امــــــــــــــــــــــــــــــام         يقصر الشـعر عـنه والشعراء

فالمواقف المفجعة تتجلى في كل بقعة من أرض "كرب و بلاء" كربلاء. و فجاعتها تتمثل في افتقادها  للتوازن ليس في أعداد الجنود فحسب، و إنما في الأهداف و الدوافع و القيم و المثل كذلك. فالحسين يسقي و يروي جنود القوم و يرشُفُ خيولَهم ترشيفا حينما عزَّ عند خصمه الماء، و لكن عندما انقلبت الكفة، حُرِمَ من الماء هو و جميع من في معسكره  نساء و رجالا .. صغارا و كبارا. و حينما سأل لرضيعه الماء كان السهم المجنون قد خرق قماط الرضيع ليستقر في مِنحره، حينها يرفعه الحسين الأب  بيديه قائلا: "هَوَّنَ عليَّ ما نزل بي أنه بِعَيْنِ الله.. اللهم إن كان هذا يرضيك فخذْ حتى ترضى..".    

الزاوية الثالثة: أصالة النسب و الأثر الوراثي. فقد أشار الشاعر إلى أصالة النسب و تأثيره على المرء و دوافعه و توجهاته، فشتان بين من كان جده رسول الله محمد صلى الله عليه و آله و سلم  ومن كان من نسل آكلة الاكباد. و في هذا المضمار قال السيد هلال:  
سبط خير الأنام والصفوة الكبرى      أبـــــــوه و أمـــــــــــــــه الــزهــــــــــــــــــــــــــــــــــراء
كــــــنـزُ سر العـلــــــــــــوم مـذْ لقنـتـــــــــــــــــــــه     و هو في المهـد سِـرَّها الأنبياء
أما الطرف الآخر فهو في رأي الشاعر:
لا رعـــــــى الله يـا حســــــــــــــــينُ زمانا      أخذت فيــــــــــــــه ثارَهـــَـــــــا الاعـــداءُ
إن فـي النفس من حـزازات بــــــــدر     ألماً ما لـه ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــواك دواء
قـاتـــل الله مـن أمـيـــــة فــــــــــــــــــــــــــــــــــردا     كمَنَــتْ فــي ضمــــــــــــــــيره الشحناء
غـرسَ الحِقْــــدَ فــي أشَـــرِّ بنيــــــــــــــــــــه     فهــو والشــرُّ فــي المقـــــــام ســـــــواء

الزاوية الرابعة: الأخلاقيات و القيم. إنها ثورة ناصعة في أخلاقياتها و قِيَمِها و مبادئها و دوافعها، فكل من استشهد و قاتل في جبهة الحسين كان يعرف أن الشهادة مصيره. فلم تكن أموالُ الدنيا و مناصبُها مطلبَه، بل كانت الجنةُ ونعيمُها مبتغاه. تجلت في هذه الثورة أسمى آيات التكامل التي من النادر أن تجد شبيها لها. فقد وصف الشاعرُ الحسينَ و من معه من الأصحاب قائلا:
بـطــل حــــازم أبـــي كـمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي             أرْيــَحِـــــــــيٌ مـنَـــــــــــــــــــــــزَّه وضَّـــــــــــــاء
قادة الحرب إن لظى الحرب شبت                و لدى السلم ساسة خطباء

وقفة للحسين جل عـن الوصف          و لـــــم تـرو مثـلــــــــــــــــــــــــه الامـنـاء
سار نحـو العراق يـزحف نحو            الموت تحـــــدوه عــــزة قـعســـــــــــــاء

و ما أوضحه الشاعر في أبيات قصيدته كان تحليلا لكلا الجانبين من حيث الأصل و الدوافع و التركيبة الإنسانية. و من هنا فإن العقل و الوجدان الإنساني لا يستطيع استيعاب الاختلال الشنيع في توازنات هذه الحياة ، حيث يعبر قائلا:

                عجبأا يُقتَـل الحسـين و تبقــــــــى            في هناء من بعده الأشقياء
                و تضام الأباة إن طلبو الحق            و تُسبى من الخدور النساء
النساء المطهرات من كل عيب          و اللواتي شعارهن الحيــــــــــــاء

و يصل الشاعر الملهم  في الأخير إلى هذه النتيجة التي هي سكن للمؤمن:
إن صرعى الطفوف لا شك عندي        أنهـم عنـــــد ربـهـــــــــــــــــــم أحياء

فصرعى معركة الطف فيهم أبناء رسول الله و أصحابه من مذاهب شتى و مشارب مختلفة سواء من ناحية الأصل أو من ناحية الخلفيات الثقافية. فهناك المسيحي و العثماني الهوى (كما يذكر التاريخ) و غيرهم من الأطياف و الألوان و هناك العبد الأسود و السيد القرشي و هناك من كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم. فكان هناك: الجابري و الحنفي و الأنصاري و الكلبي و الأسدي و الشيباني و القيسي و الطائي و الجعفي و غيرهم الكثير. كما أن  من كتب عن الحسين شعرا كان أو نثرا رغم أنهم تنوعوا شكلا إلا أنهم إتحدوا معنى بسبب تألق مبادئ الحسين و أهدافه الإنسانية التي علت على حواجز المكان و الزمان فغدت عالمية و أممية و متجددة.

لم تكن العصبية القبلية أو الطائفية حاضرة في معسكر الحسين بكربلاء لينقسم الناس وفقها، و إنما كانت المبادىء و المثل و القيم هي التي تتحكم في الأنفس و تصنف القوم إلى من هو مع الحسين أو في الجبهة الأخرى. وقد برع الشاعر في وصفه حين قال:  

لهـفَ نفسي عـلى ليوث تصدت     لعـــديد مـا أن لـه إحـصـــــــــاء
ثبتت في مـــــــــواقف المـوت حتى     فَنِـيَتْ ، والفـناء منـها وفـاء

لقد كانت واقعة الطف مدرسة لكل قلب منفتح و عقل متأمل.  لم تكن كربلاء شيعية أو سنية و لم يكن الحسين أو زينب يمثل الشيعة أو السنة أو غيرهما وإنما كانا يمثلان مبادئ و نهجا تربَّيَا عليه في كنف جدِّهما رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم . لهذا بقي الحسين عليه السلام في الفكر الحر و الوجدان الذي لم تلوثه الجاهلية بأنجاسها كما وصفه السيد هلال:

بأبي الطـاهر الزكي ونفسـي          وبيوم طالت به البطحـــــاء
وبيوم الطفوف وهو صريع            وبيوم مـادت له العليـــاء
فصلاة من الإلـــــه عليــــــــه             وســــــلام ورحمـــة وثنــــــــاء

فلْنفتح قلوبنا و عقولنا و لْنتخذ من حفيد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم  مظلة نستظل تحت فيء عطاءاتها.. و نستلهم منها دروسا في الحب و الإخاء و المودة و الرحمة تأسيا بتلك النفوس البيضاء الكبيرة. فرحمةٌ من الله و جزاءٌ و شكورٌ منه سبحانه على الشاعر السيد هلال بن بدر البوسعيدي في ذكرى شهادة أبي الشهداء والأحرار الحسين بن علي ـصـلاة مـن الإلـه عـلـيه و على جده المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم.