السبت، 17 نوفمبر 2012

الأرض لا يمكن إلا أن تكون كروية «1»

 
"الأرض لا يمكن إلا أن تكون كروية” هي حقيقة لا غبار عليها أو خلاف في عصرنا الحالي. و الخلاف الذي دار حول هذه الحقيقة ، دفع جاليلو حياته ثمنا له. هذا كان عنوان... 

 
"الأرض لا يمكن إلا أن تكون كروية” هي حقيقة لا غبار عليها أو خلاف في عصرنا الحالي. و الخلاف الذي دار حول هذه الحقيقة ، دفع جاليلو حياته ثمنا له. هذا كان عنوان مقالي لهذا الاسبوع و الذي تغير محتواه ليبقى العنوان و تحل محل حقيقة كروية هذه الأرض حقيقة أخرى. فهناك الكثير من الحقائق الحياتية التي ليس عليها نقاش أو أي اختلاف في وجهات النظر.
والحقيقة التي أتناولها في هذا المقال هي تلك الحقيقة التي أكد عليها صاحب الجلالة في خطابه السامي بتاريخ 12 نوفمبر 2012 في مجلس عمان كما أكد عليها في خطابه السامي في الإنعقاد السنوي لمجلس عمان 2011م ، إنها حقيقة “أهمية التعليم".  وحقيقة أهمية التعليم في القرن الواحد والعشرين من الحقائق التي ليس عليها اختلاف بين مختلف وجهات النظر.
 
إنه لا غرابة مع بداية القرن الواحد و العشرين أن نرى أن خطابي صاحب الجلالة في هذا العام والعام المنصرم أشارا كلاهما بشكل مباشر إلى الإنسان باعتباره خليفة الله في الأرض و الى التعليم المتمثل في قوله تعالى في كلمة "إقرأ" باعتباره الدعامة الأساسية لرقي هذا الإنسان و بالتالي الأمة. هذه الإشارة السامية لم تكن إشارة عابرة و لكن القارئ المتمعن في الخطابين يجد أن هناك حقائق هامة تتمحور حولها أسس بناء "الدولة العصرية" التي تعهد جلالة القائد على إقامتها "منذ اللحظة الأولى لفجر النهضة المباركة". لقد كان جلالته مدركا بنظرته الثاقبة أن إقامة مثل هذه الدولة بحاجة إلى إنسان، وتاريخ الإنسان العماني شاهد على قوة عزيمته وشجاعته و قدرته على وضع الأمور في مظانها. فكما أوضح جلالته في خطابه السابق: «فالعمانيون منذ القدم صناع حضارة ولهم موروثهم التاريخي العظيم و انفتاحهم على الحضارات الأخرى عبر البحار والمحيطات وسعيهم إلى التواصل مع الآخرين ... يؤهلهم ليكونوا قدوة».

 ومن هنا، فإن الأولوية تقع في بناء الإنسان العماني الذي يشهد تاريخه باقتداره وحاضره ومستقبله بإمكاناته في أن يكون قدوة ومثلا ومنارا. ومن أجل ذلك ركز جلالته على عدد من المرتكزات في كلا الخطابين أولها: بناء إرادة قوية وعزيمة صادقة في مواجهة التحديات، والثاني: تنمية الموارد البشرية لأن الإنسان في فكر جلالته هو "حجر الزاوية في كل بناء تنموي"، والثالث: رعاية الشباب وتعزيز قدراتهم المختلفة (فهم ثروة المستقبل) وإيجاد فرص عمل متجددة لهم. والرابع: حرية التعبير من غير غلو أو تطرف والمشاركة الفاعلة في تعزيز مسيرة التطور في شتى الميادين. وخامسا: المساهمة مع مؤسسات المجتمع المدني والعمل على المساهمة الجادة والمخلصة فيها. وتحَقُّقُ هذه النقاط لا تتأتى سوى تحت مظلة "المحافظة على هويتنا وثوابتنا وقيمنا التي نعتز بها" والتي هي دعامة الإبداع والتطور. والدعامة الأساسية والتي أشار اليها جلالته في خطابه الحالي ترتكز على الإيمان بأن العمانيين "يتمتعون بمستوى جيد من الوعي والثقافة والإدراك والفهم في تعاملهم مع مختلف الآراء والحوارات والنقاشات التي تنشد مصلحة هذا البلد ومصلحة أبنائه الأوفياء.."
 
وتناولي للخطابين معا جاء انطلاقا من إيماني بأنهما يكملان بعضهما البعض. ففي خطابه السامي السابق في 2011 وجه جلالته بشكل واضح لا ريب فيه إلى "تقييم شامل للمسيرة التعليمية من أجل تحقيق تلك التطلعات". و دعوة جلالته ارتكزت على فكر هادف وتطلعات واضحة وإرادة صادقة تهدف إلى عملية تقييم شاملة من أجل الإنسان العماني. وانطلاقا من تلك الدعوة السامية التي لو أنها كانت قد أنجزت لعرفنا مواقع القوة والخلل في هذه المسيرة التعليمية التي بدأت مع بدابة عصر النهضة. إن المحاولات التي تجري بين الحين والآخر في تقييم المناهج ليست البديل عن التقييم الشامل و الجاد للمنظومة التعليمية التي تستهدف كل مكون من مكونات العملية التعليمية والتي تقوم وفق رؤية وأهداف وطنية تتخذ من الإنسان العماني جوهرا وإطارا في مسيرتها. هناك خلط واضح عند البعض بين تلك المحاولات التي تستنجد بالوافد لمعرفة مواضع النقص والخلل في بيت لا يعرف هو (أي الوافد) أساسه أو يفهم متانة أركانه و بين تلك التي ما زالت ومع الأسف الشديد مغيبة عن واقعنا! إن عملية التأسيس لتعليم متميز "لضمان جودة مخرجات التعليم والنهوض بمختلف أنواعه ومراحله" لا يمكنها أن تتحقق إن لم تكن هناك رؤية واضحة ونتائج مستخلصة من عملية تقييم شاملة. والرؤية التعليمية التي من الممكن أن نستلهم منها صاغها جلالته في قوله: "إعداد القوى العاملة الوطنية اللازمة لإدارة عجلة التنمية وتنفيذ برامجها في شتى الميادين ..". فماذا كانت نتائج التقييم التي دعا لها جلالته منذ أكثر من عام لنستطيع وفقها معرفة نقاط الضعف والقوة لصياغة أهداف المرحلة القادمة؟
 
الأمم الحية هي تلك الأمم التي أجادت إدارة "قطب الرحى" كما ورد في الخطاب السامي. ونحن والحمد لله نملك الكثير من مقومات التقدم والعطاء. فالانسان العماني يشهد له الجميع بحبه للعمل وبإبداعه و انسجامه مع ذاته و مع المنجزات الوطنية. وخلال أكثر من الأربعين عاما السابقة، وإن كانت بعض الجهات تتهاون في إظهار هذا المنجز المتمثل بقدرة العماني وإمكانياته إلا أن الواقع المتجاهل يأبي إلا أن يكون له بروز وظهور واضحين. كما أن المقولات التي طالما تتردد تارة: (لا توجد ميزانية) أو أخرى: (إن التغيير لا يتم بين ليلة وضحاها) أصبحت كثيرة الاستهلاك وغير قابلة لان تقنع العماني. إن الميزانيات المرصودة للتدريب والنمو المهني كبيرة جدا، لكن عملية الصرف هذه لا بد لها أن تكون ضمن أطر واضحة وعادلة وطنية. والعدالة تقتضي المساواة كما أنها تقتضي أن نمثل هذا الوطن خير تمثيل.
فمن العدالة أن نعطي لعماننا و إنجازاتها الوطنية المتمثلة في الإنسان العماني حق الاعتراف.. بدلا من استيراد كفاءات من دول (لا تتميز عنا في شيء) لتدريب معلمينا ؟ تبادل الخبرات أمر جميل إلا أن لكل جمال شروط وإلا فإنه يفقد مكونات جمالياته. كما أن مقولة: (التغيير لا تتم بين ليلة و ضحاها) ليس لها أساس متين فالأمر لم يعد مقتصرا على ليلة واحدة إنها الكثير من ليالي السهر التي قضاها المخلصون في بناء هذا الوطن ولم يشعر بها أولئك القابعون في مكاتبهم الذين يتمتعون بما يشاؤون من غير أي عناء ولا حسيب. صحيح أن هناك الكثير مما نرجو إصلاحه لكن هذا الكثير يحتاج الى خطوات جاده لا بد أن نتخذها رغم الشوك والألم، إلا أن قطف الورد يسهل بعد ذلك. والورد العماني له العديد من المواصفات الجمالية وعطاءته تتعدى عبقه و نفحات رائحته الزكية الى ما هو أعمق وأجمل في حياة العماني. ومحاولة استبدالها بالغربي والاقليمي لن تثمر سوى بسلب تلك الجماليات ! .
 
إشارة جلالته الواضحة الى مجلس التعليم و دوره القيادي في المسيرة التعليمية تبث فينا الكثير من الأمل في أن نتلمس في البدء تقييما واضحا يشمل المنظومة التعليمية بأكملها و من ثم وفقا لنتائجه تتم صياغة مناهج تتناسب مع قيمنا ومبادئنا وأهدافنا الوطنية، وبالتالي، تتواءم مع احتياجات أبنائنا للولوج في العقود القادمة من القرن الواحد والعشرين بكل ثقة واقتدار. فقد آن أوان القيام بعملية استخراج وتفعيل المفاهيم والأفكار والتجارب القيمة التي تم إهمالها ومحاصرتها في الإرشيفات واحلالها محل اى ممارسات او برامج مرتجلة ومستوردة والتي من المفترض ان تلغى من قواميسنا وممارستنا الحياتية.
 
هناك مقولة من صلب حضارتنا تقول: إن البيت الذي يعجز نوره من أن يضيء ما بين جوانبه سوف يكون أعجز من أن يسعف بنوره غيره. والمبادئ والقيم المدونة في الكتب والدفاتر إن لم تجد لها واقعا ملموسا تبقى قاصرة من أن تظلل بظلها الآخرين. هناك قوانين وسنن كونية حري بنا استيعابها وفهمها! إننا نتطلع إلى رؤية واضحة و نتطلع إلى غد مشرق بقيم نبيلة أصيلة بأصالة العماني، كما نتطلع إلى تقييم لمختلف جوانب منجزاتنا الوطنية وعلى رأسها التعليم بجميع أبعاده وبمشاركة وطنية شفافة بامتياز. فكلنا راع و كلنا مسؤول عن رعيته.. وهذه حقيقة أخرى كحقيقة "الأرض لا يمكن إلا أن تكون كروية" ...فَلْنُعِدِ النَّظر!