الأحد، 5 فبراير 2006

مقومات المواطنة الصالحة.

تحمل الأمم مقومات بقائها وديمومتها كما أنها تحمل مقومات سلامتها وصلاحيتها. وتتكون الأمم من دول ومجتمعات. وسلامة المجتمع هي الركيزة الأساسية لتفادي فنائه ...



تحمل الأمم مقومات بقائها وديمومتها كما أنها تحمل مقومات سلامتها وصلاحيتها. وتتكون الأمم من دول ومجتمعات. وسلامة المجتمع هي الركيزة الأساسية لتفادي فنائه ولاستمراريته فاعلا ونشطا كنواة لأمة صالحة. وحين خلق الله الخلق وعمر هذه الأرض بهذا الإنسان الذي أكرمه بالعقل، أمده بتعاليم كثيرة لإنارة عقله ولديمومته في إطار مجتمع صالح. وتنوعت التعاليم الإلهية لبناء مجتمع صالح وفاعل على أساس التربية التي تستهدف تنمية الإنسان وفق مفهوم المواطنة الصالحة. وتبلورت هذه التعاليم على أكثر من صعيد. فمن هذه التعاليم ما هي على الصعيد الفردي ومنها ما هي على الصعيد الأسري وعلى الصعيد الاجتماعي إلى أن تبلغ في رؤاها إلى الفرد كونه جزءاً من هذا الكون الواسع. هذه التعاليم لم توجد ولم تخلق إلا لسعادة الإنسان واستقراره في هذا الكون الواسع. وهذه التعاليم لا تغاير العقل البشري أو تتناقض معه، إنها تتجانس مع هذا العقل وتنطلق من صميم بديهياته. لكننا كثيرا ما نقف عاجزين عن إدراكها وبالتالي تطبيقها في فعلنا اليومي... ترى لماذا؟
تحتمل “لماذا” والتي قد تثار كثيرا في مجالسنا الثقافية والتربوية أكثر من رأي وفكرة وتفسير. فالبعض يرجعها إلى التطبيق الجزئي للإنسان لهذه القيم والمفاهيم السامية. وسبب هذا التطبيق الجزئي لهذه المفاهيم هو الفهم الضيق لهذه القيم التي تجعل المرء غير قادر على استيعابها الا على نطاق نفسه أو عائلته. فتطبيق هذه القيم على هذا المحيط الضيق قد يسهم في نشر بعض الراحة عند الإنسان إلا أنه في حياته وممارساته الدنيوية لا يكتفي بهذه الفئة من البشر وإنما يضطر إلى العيش مع الآخرين الذين لم يكن يتوقع أن يعيش معهم. لهذا فاقتصار تطبيق هذه القيم مثل السماحة وحسن الظن ضمن جزء صغير من هذا العالم الواسع لا تكفي الإنسان بأن يعيش هادئ البال. ومن جهة أخرى فإن منطلقات تطبيقاته ليست أكثر من الأنانية المفرطة المحصورة في الذات إلا أنها قد تكون بداية طيبة في انطلاقته إلى العالم الأكبر إذا تمكن من استيعاب أنه جزء من ذلك العالم.
أما بعضنا الآخر فيحسب أنه في قمة الخلق في تطبيق هذه التعاليم التي تتطابق مع العقل البشري في منطقيتها وخيرها، وهنا يقع الفأس على الرأس. فبمجرد وصولنا إلى هذا التسليم فإنه يصعب علينا حينها أن نرى نقائصنا أو ان نستوعب الأخطاء التي تكتنف تصرفاتنا. لذلك ترانا نجد لكل فعل تبريرا ينوء بنا عن استشعار أخطائنا. وهنا يصبح ما هو محرم على الغير مباحاً لنا.
كغيري من العرب والمسلمين أو حتى من بني البشر من الأمم الأخرى الذين يقبلون سنويا إلى الولايات المتحدة سواء لطلب العلم أو العيش، انبهرت بهذه الحضارة وأعجبت بتعاملاتهم الراقية سواء مع بعضهم بعضاً أو مع الآخرين. الا أن هذا الانبهار أيضا سلك منهجا يتسم بالملاحظة والتحليل في معرفة لماذا هم يختلفون عنا.
يمكن للمرء تلمس الاختلاف الكبير والظاهري وبشكل واضح في شفافية تعاملاتهم وصفائها من المزعجات اليومية مثل سوء الظن وعدم الوضوح أو الصراحة، واحترام الآخرين، والتعاون، ومعرفة حقوق الآخرين وواجباتهم وغيرها من الأمور التي لست بصدد عرضها هنا.
عند مراجعة تاريخ الولايات المتحدة تجد أن هذه الدولة قامت على أنقاض الشعب الأصلي وهم كما يحلو للبعض أن يسميهم “الهنود الحمر” أو “السكان الأصليون” للبعض الآخر. بدأ قيام هذه الدولة بعد هجرة الكثير من الأوروبيين على مشارف القرن السابع عشر إلى أمريكا إما طلبا لعيش أفضل أو هربا من الممارسات الدينية المتشددة للكنائس في بلدانهم في تلك الفترة. وحينما استقروا كانت للبعض منهم ممارسات إرهابية في القضاء على الشعب الأصلي في الوقت ذاته الذي حاول البعض منهم بناء مستعمراتهم بعيدا عن الأفكار والرؤى التي هربوا منها. ومع بدء استقرارهم في تلك الأرض الجديدة فإن من أهم المقررات أو الركائز التي تم الاستناد إليها في بناء تلك المستعمرة هو التركيز على بلورة نظام تعليمي ينمي حس المواطنة عند أفراده.
بدأت الخطوات الأولى من عملية نشر التعليم بافتتاح مدارس خاصة لتعليم الطبقة الغنية من المجتمع. ولكن في عهد جيفرسون الرئيس الثالث للولايات المتحدة انصب الاهتمام نحو أهمية نشر التعليم المجاني لجميع أفراد الشعب، انطلاقا من فلسفته التي ترى في التعليم ضرورة لاحترام الفرد لذاته، كما أنه الدرع الحامية التي تقوم أي انحراف في أداء الحكومة.
ولكن إلى أي مستوى استطاعت الولايات المتحدة نشر مفاهيمها وفلسفتها التربوية؟ ما هي حدود المواطنة الصالحة التي أسس عليها النظام التعليمي الأمريكي؟
هذان السؤالان يعودان بنا إلى الفكرة الأولى حينما حاولنا تفسير “لماذا”؟
مع الأسف حينما تراجع تاريخ وسياسة الولايات المتحدة في هذه المرحلة ترى أنها اقتصرت في قيمها ومفاهيمها على ذاتها وكيانها، متجاهلة أهمية عملية التداخل والتفاعل العالميين. ومن أجل ذلك حصرت تلك القيم في الداخل واستبدت بالخارج لأنها لم تتمكن من استيعاب فكرة أنها جزء من هذا العالم الواسع. بل استحوذت عليها فكرة أنها أفضل من الكل وهي التي لا بد لها من أن تسيطر وتدير الكل. فقامت على فكرة السيطرة والاستحواذ على مقدرات الغير وخيراته. فكل ما هو مباح لها ولشركائها محرم على غيرهم من الشعوب والأمم. فالديمقراطية العرجاء التي تنادي بها للأمم الأخرى لا بد أن تكون قد تشكلت وفقا لمعاييرها والا فهي ديمقراطية مدانة. والتمدن والتعليم الذي فرضته على أفراد شعبها لا بد أن يتشكل للآخرين بحيث يصب ضمن دائرة مصالحها. هذه الازدواجية في التفكير لم تنشأ عبثا وإنما خدمة لأهداف محددة سلفا سواء كانت قد خطط لها منذ بداية تأسيسها أو إنها استحدثت باستحداث دولة “إسرائيل”. فلهذا نجد ان الانبهار بما هو في الداخل من قيم ومبادئ يقابله الكثير من الاشمئزاز والحيرة لما تفعله الولايات المتحدة في الخارج. وبين الخارج والداخل بون شاسع. فلنطرح الأسئلة مرة أخرى:
هل استطاع الغرب تشكيل نواة اجتماعية صالحة؟ وهل استطاع أن يمد بنتائج اجتهاداته في مجال السلوك والتعامل والخلق إلى أبعد من دائرته الذاتية ومصالحه الخاصة؟ وهذه ال “هل” تحتمل أكثر من تفسير واجتهاد ورأي.. ولكن... وعلى ما يبدو أن المواطنة الصالحة ستبقى مصطلحا بمعالم باهتة سواء في الشرق أو الغرب.