السبت، 25 أبريل 2020

“الهروب من البيت” في أدب الأطفال


رغم اختلاف البيئات الإنسانية فإن ما يجمع الناس هو الخصائص الإنسانية المشتركة بين البشر. فالاختلافات الظاهرية في الشكل والهيئة...



https://www.raialyoum.com/index.php/د-فاطمة-أنور-اللواتي-الهروب-من-البيت-ف/

رغم اختلاف البيئات الإنسانية فإن ما يجمع الناس هو الخصائص الإنسانية المشتركة بين البشر. فالاختلافات الظاهرية في الشكل والهيئة واللغة والبيئة والعادات والتقاليد كلها تجتمع في المشتركات الأساسية سواء كانت واضحة كخلقة الانسان أو باطنية كمشاعره وعواطفه ودموعه. هذه المشتركات الإنسانية تظهر في الكثير من الاعمال الأدبية بينها أدب الأطفال لترسم خارطة الحركة الأدبية التي تنطلق من المشتركات الإنسانية لتنفصل عن بعضها عند نقطة الاختلافات الظاهرية التي تشكلت بتأثير البيئة والقيم الاجتماعية والثقافية.

تعتبر مسألة “الهروب من البيت” من المشتركات الإنسانية التي تنتاب تفكير بعض الأطفال. لكن قلما نجد قصصًا في أدب الأطفال تناولت هذه المسألة. ومن حسن حظي أنني قرات روايتين إحداهما باللغة الإنجليزية والأخرى باللغة العربية حول هذه المسألة (الهروب من البيت).

 الرواية الإنجليزية “My side of the Mountain” من تأليف . Jean Craighead George نُشرت الرواية عام 1959 وفازت بجائزة نيو بيري (Newbery Medal). يقول مؤلف الرواية في المقدمة أنه قال لأمه حينما كان في المدرسة الابتدائية بأنه سوف يهرب من البيت إلى الغابة ليعيش في الطبيعة ويأكل منها ويكون حرا. وكان قد تعلم الكثير عن الحياة في الغابات من والده وأخويه، ومن الكثير من المصادر التي اطلع عليها في المكتبة العامة. يقول المؤلف بأن أمه لم تحاول ثنيه عن فكرة الهروب، لأنها هي أيضا مرت في طفولتها بنفس التجربة، واكتفت بفحص حقيبته للتأكد من أنه لم ينس فرشاة أسنانه، كما وضعت له داخلها بطاقة بريدية (Post Card) ليرسلها إليها من أجل طمأنتها وإخبارها عن حياته في الغابة، ثم قبلته مودعة. لكنه ما لبث أن رجع الى البيت بعد أربعين دقيقة. ويضيف المؤلف بأن ابنته حينما كانت في المرحلة الابتدائية انتابتها نفس الرغبة، وهي الهروب من البيت والعيش في الغابة. وقد قام بنفس ما قامت به أمه معه من فحص الحقيبة للتأكد من وجود فرشاة أسنانها. إلا أنها ــ هي الأخرى ــ سرعان ما رجعت الى البيت.

تنتاب بعض الأطفال فكرة الهروب من البيت إلا أنهم سرعان ما يرجعون الى بيوتهم، إلا سام بطل رواية (My side of the Mountain)، فقد قرر الهرب الى الغابة بعدما شعر بضيق شقتهم الصغيرة في ولاية نيويورك التي كانت تضمه مع والده وثمانية من أخوته. فرغبته في العيش في مكان واسع كان وراء قراره الهرب من البيت، كما أنه كان راغبا في اكتشاف الأرض التي جاء منها جده عبر العيش فيها.

في الجهة المقابلة، فإن رواية اليافعين العربية “هروب صغير” من تأليف الكاتبة عفاف طبالة التي نشرت عام 2019 تعالج مسألة هروب الأطفال من بيوتهم في مصر. كان هروب (ياسر) بطل الرواية بسبب المشاكل بين والديه التي وصلت إلى حد الطلاق. ولعدم اهتمام الوالدين بمصلحة ياسر وقلقه وهواجسه تجاه انفصالهما فقرر الهرب من البيت لإشغال والديه في مهمة البحث عنه، فلعل ذلك يعطيهما فرصة إعادة النظر في طلاقهما.

تنطلق الروايتان من نفس الدافع المشترك بين الأطفال في هذه المرحلة العمرية وهو الرغبة في الهرب من البيت من أجل تحقيق رغبة ما سواء التخلص من وضع سيء بالهروب منه والبحث عن وضع أفضل. أما جهة الهروب فبطل كل رواية اختار الجهة التي تتناسب مع تفكيره ومحيطه لتحقيق الهدف والدافع خلف كتابة الرواية. ففي رواية My side of the Mountain اختار سام بطل الرواية الهرب إلى احدى الغابات في ولاية نيويورك أرض اجداده. بينما اختار ياسر في رواية “هروب صغير” الهرب الى إحدى أرجاء المدينة، فلجأ الى إحدى المباني غير المكتملة ليتخذ منها مأوى له.

يقول كاتب رواية (My side of the Mountain) بأنه حينما قدم روايته إلى الـ (editor) ليتولى مهمة نشرها، فكان رد دار النشر الرفض لأن الرواية تشجع الأطفال على الهرب. إلا أنه (أي الـ (editor تواصل معه بعد وقت قصير ليقول له بأنه تمت الموافقة على نشر الرواية. وحينما سأله عن سبب تغيير القرار، كان رد  (الـ editor) بأنه استطاع اقناع الدار أنه “من الأفضل الهرب الى الغابات بدلا من الهرب الى المدينة”. وهذا ما جعلني أقف أمام رواية “هروب صغير” الذي هو هروب الطفل الى المدينة.

لعل كلتا الروايتين تحاولان انتباه القارئ — عبر هرب بطل الرواية —  إلى أهداف محددة تستحوذ على اهتمام الكاتب. ففي رواية “هروب صغير”، تهدف الرواية إلى تسليط الضوء على المشاكل الاجتماعية التي تواجه الأطفال الذين يهربون من بيوتهم. فبطل الرواية هرب من بيته متجها إلى حارة بعيدة عن سكنه ليسكن في إحدى المباني غير مكتملة البناء هربا من مشاكل والديه. ومن هناك يتعرف على الأطفال الذين لا مأوى لهم. تلفت الرواية الانتباه الى الكثير من المآسي التي يعانيها الأطفال الذين لا مأوى لهم لأسباب مختلفة منها انفصال الوالدين وعدم تحمل أي من الوالدين مسؤولية الأطفال بحثا عن حياة جديدة يعيشانها. و تتطرق الرواية الى عمل الأطفال من أجل كسب بعض المال لسد جوعها. وتستعرض الرواية قساوة حياة أولئك الأطفال الهاربين التي يأكل فيها القوي الضعيف إلى جانب عيشهم في بيئات غير صحية ناهيك عن مطاردة بعضهم بعضا في سبيل اقتناص فرصة أو لاستيلاء على طعام أو على شيء آخر. وتصل قساوة الحياة بأولئك الأطفال إلى حد تجعلهم يلجؤون الى البحث عن بقايا طعام والعيش والعمل حول القمامة. ولكن رغم ذلك فهناك دائما الأمل في بعض الطيبين الأخيار تجاه أولئك الأطفال المشردين الصغار. وهكذا تنتقل الرواية من موقف الى آخر لتستعرض أوضاع الأطفال المشردين مرسلة رسالة بليغة إلى الأطفال الذين تساورهم فكرة الهرب مفادها أن الحياة خارج إطار الأسرة حياة تعيسة ومليئة بالصعاب. ومن جهة أخرى تثير الرواية قضية اجتماعية يدان فيها المجتمع والحكومة على حد سواء. وهذا ما جعلني أتساءل في أي عالم نعيش ونحن نتغنى بجمال الحياة في الوقت الذي يعاني فيه الصغار التشرد والجوع!  وفي أي عالم يعيش المصريون الذين يستلذون بالفن ويتغنون بالحب وينشرون الفكر وهناك حولهم الكثير من الصغار الذي حددت الحياة مسالكهم لينشؤوا وسط الجحيم. قد تكون هذه القضية الاجتماعية مقتصرة على بيئات محددة أوفي دول معينة إلا أنها تثير لدينا التساؤل حول حقوق الانسان وحق الطفل بالذات في العيش الكريم!

 لقد استطاعت الكاتبة عفاف طبالة -إلى حد جيد — إثارة مشكلة الأطفال الذين يعيشون من غير مسكن ومن غير لقمة عيش صحية، إلا أنني كنت آمل أن تواصل الكاتبة في مواصلة رسالتها الإنسانية مع فئات أخرى من أبناء وطنها عبر رواية أخرى تعرض فيها الجانب الإنساني في علاج هذه المشكلة.. فنحن منذ ان فتحنا أعيننا ونحن نسمع أن مصر أم الدنيا.. فأين هي تلك الدنيا عن أولئك الصغار الذين هم بلا مأوى أو حياة كريمة. وأخيرا.. هل استطاعت الكاتبة أن تقدم للأطفال اليافعين الصورة التي تقلع من ذهنهم فكرة الهرب من واقعهم الى الواقع المزرى لأولئك الأطفال الذين هم بلا مأوى ولا طعام؟

في المقابل نلاحظ أن هدف الرواية الإنجليزية كانت دعوة إلى التأمل في الطبيعة وإنعاش تلك الحياة الهادئة التي يعيشها الطفل بعيدا عن والديه. الطفل اليافع ترك والديه وهما على علم بخطته للذهاب في العيش في منطقة أجداده. لقد عاني الطفل الهارب الكثير حتى وصل الى تلك المنطقة.  وقد ظن والداه أنه سرعان ما سيعود إليهما، لكن بقاءه هناك امتد طويلا. لقد كان يعيش في إحدى الغابات حيث بنى لنفسه بيتا على شجرة وتعلم كيف يصيد وكيف يوقد النار وكيف يصنع له أثاثا وكيف يصنع لنفسه ملابس من جلود الحيوانات التي كان يصيدها الصيادون وينال حظه منها. لقد كان يلجأ بين حين وآخر إلى المكتبة العامة ليقرأ ويتعلم أمورا جديدة، فلم تكن صلته مقطوعة تماما بعالم الكبار الذين من حوله. فأمينة المكتبة كانت تساعده في الحصول على المعلومات التي كان يبحث عنها، كما أنه صادق أحد المعلمين الذي تاه في الغابة فأمضى معه عدة أيام. رغم محاولة تخفي سام والابتعاد عن الاعلام إلا أن الإعلام استطاع الوصول إليه وبدأت أخباره تتسرب إلى والديه اللذين قررا مع إخوته زيارته في إحدى الإجازات المدرسية. إنها رواية ممتعة تقدم الكثير من المعلومات حول الطبيعة وتحبب القارئ لفكرة العيش في الطبيعة، فيتمنى أن يحظى بليلة يقضيها في بيت سام في الغابة وبين الأشجار. تمتد الرواية في عدة روايات تربطها نفس شخصيات الرواية لكن تظل الرواية الأولى هي الأجمل. رغم قدم الرواية إلا أنها مازالت تحمل الكثير من الإلهام والعمق والجمال. لكنني أسأل: هل يمكننا تقديم هكذا روايات في العالم العربي؟

            لعل معاناة العالم العربي من حكومات يديرها حكام ينهبون خيراتها وثرواتها ومن أنظمة لا تولي الاهتمام والعناية اللازمين لحقوق الانسان وبالذات حق الطفل في حياة كريمة، فإنني أعتقد أن الانسان أسير لبيئته ولثقافة البيئة التي يعيشها. وليس ذلك عيبا لأننا في أدب الأطفال نحاول ان نضيء على الإشكاليات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي نعيشها، محاولة منا لوقاية أطفالنا من المآسي المحيطة بهم والاضاءة على النعم التي ينعمون بها. إننا ننظر الى المستقبل بعين التفاؤل والحب ولعل القادم من الأيام تكون أفضل حينما نصل الى حقوق الانسان وعلى رأسها حقوق الطفل في عالمنا العربي، فنحفظ بذلك للطفولة جمالها وبراءتها.