الخميس، 16 مايو 2013

{ وما تشاؤون إلا أن يشاء الله}

قبل فترة طُلبَ مني التحدث في إحدى الجلسات حول مفهوم الآية "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله". جالت الكثير من الأفكار في ذهني وحلَّلتُ الكثير من القصص والأحداث التي ...



قبل فترة طُلبَ مني التحدث في إحدى الجلسات حول مفهوم الآية "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله". جالت الكثير من الأفكار في ذهني وحلَّلتُ الكثير من القصص والأحداث التي سمعتها. وقبل ثوانٍ من الموعد المحدد لحديثي تخمّرت في رأسي فكرة استلهمت عبيرها من حديث سمعته فقد كان هناك يدندن في اللاشعور.
قلت: "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله" إلا أنّ هذه المشيئة الإلهية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمدى ثقة الإنسان بربه و توكله عليه و قوة إيمانه بأنّ الله موجود وأنه خير ناصر ومعين. واستمريت في سرد حديثي المتمثل في قصتين مترابطتين من حيث الشخوص والفكرة، ولكن مختلفتين عن بعضهما من حيث الزمن. قلت: البعض منّا قد يعيش أحيانًا حالة النقص الذاتي محاولا منع الخير عن الآخرين وإغلاق كل باب من الممكن أن تهب منه نسمة من النسمات الإلهيّة عليهم. فهم (أيّ أولئك البعض) وكأن الشيطان قد سكن في نفوسهم وقلوبهم، فكلما لجأ إليهم أحد لحاجة أو طلب منهم أية مساعدة تتحول أياديهم حاملة تلك الأقفال التي تحتاج إلى مفاتيح قارون ليغقلوا بها جميع أبواب الخير. فقصر نظرهم يجعلهم يظنون أنّهم من يفتح ويغلق تلك الأبواب. وإن بدا هذا صحيحًا على المستوى القريب، لكن.. هل هذا ما هو حادث على المستوى البعيد؟
تحكي إحدى الأمهات بأنّ الله حباها بابنة متميزة ومتقدة ذكاءً وحماسًا ونشاطًا، كما أنّه سبحانه حباها أيضًا بالجمال والطول فكانت تظهر بمظهر أكبر من الصغيرات اللواتي كنّ في عمرها. لهذا حينما بلغت سن الدراسة اتجهت بها أمّها نحو إحدى المدارس الخاصة لتسجلها في الصف التمهيدي. لكن ابنتي (تقول أمها) كانت أكبر من أن تكون في مرحلة التهيدي ليس عمرًا وإنّما عقلا وقدرة. فقد كانت تقرأ كتاب اللغة العربية لأخيها الذي كان في الصف الثالث وكانت تتعامل مع الأرقام وكأنها تلعب بدميتها. وكانت أيضًا تمتاز بشخصيّة قياديّة ساطعة تغمر بها الجميع إلى جانب جمالها وحيّويتها. فقالت لي معلّمتها في مرحلة التمهيدي (تواصل الأم): ابنتك ليست تلميذة.. بل هي معلمة الصف.. ونصيحتي لك بأن تحصلي لها على استثناء من المسؤولين لرفعها إلى الصف الأول، لا سيما أنّ هناك ممن حصل على هكذا استثناء! تقول الأم: تشجّع والدها فاصطحبها معه إلى المسؤول حاملا معه كتاب اللغة اللعربية للصف الثالث. وفي ذلك المكتب الفخم أدارت الصغيرة رأسها متفحصة ومكتشفة خفايا ذلك العالم الذي لم تكن تعرف عنه شيئا. إلا أنّه حينما طلب منها الوالد القراءة فتحت إحدى صفحات كتاب اللغة العربية بشكل عشوائي وبدأت تقرأ وكأنها مذيعة متمرسة تخطب أمام حشد من الجمهور. وما أن انتهت حتى أرجعت الكتاب إلى محله وانشغلت في عالمها الطفولي بينما كان والدها يستمع إلى حديث ذلك المسؤول الذي قام من كرسيه بعد قليل وتوجه إلى إحدى خزاناته ثمّ ناولها علبة صغيرة. تسلمت تلك الميدالية الفضية ظنًا منها أنّه تمت الموافقة على نقلها إلى صف أعلى. لكن بمجرد أن عرفت أنّ تلك الميدالية لم تكن سوى رشوة من ذلك المسؤول أراد منها إسكاتها. فما كان منها إلا أن رمت بها أرضًا لتدوسها الأقدام بينما واصلت هي مسيرها شاء ذلك المسؤول أم لم يشأ. واصلت الأم: لكن شاءت الأقدار أن انتقلنا إلى إحدى الدول الغربية بعد بضع سنين.. وشاء الله أيضا أن يسخر لها من يقدر إمكانياتها وقدراتها. فكان ذلك الأجنبي الذي لاحظ عليها سمات الذكاء والتفوق، فتمّ ترفيعها إلى صف أعلى. لقد أغلق عليها ذلك المسؤول ابن البلد الباب ففتحه الله لها على يد شخص آخر فاستحق أن ينال رضا الله وخيره!
بعد عدة أعوام أخرى، تخرّجت تلك الفتاة من ثانوية تلك الدولة التي أنصفتها في المرة الأولى بتميّز وتفوق كبيرين. ولم يكن ذلك التفوق محصورًا على المجالات العلمية وإنّما كانت لها مشاركات اجتماعيّة متميزة شكلت فخرا للبلد الذي تنتمي إليه. لكن .. وللمرة الثانية وإذا بنفس ذلك المسؤول الذي حرمه الله من فعل الخير في المرة السابقة فلم ينجح في الاختبار فإذا به يقف مرة أخرى في طريقها ويقع في اختبار أشد وقعًا من حرمانها من حقها قبل اثنتي عشرة سنة، فإذا به يأمر وبكل إصرار حرمانها من بعثة دراسيّة استحقتها عن جدارة واقتدار، مغلقًا أمامها وبكل قسوة حتى فرصة الحصول على نصف بعثة دراسية، ضاربًا بكل جميع الأنظمة والقوانين عرض الحائط.. لكن.. (تضيف الأم) وكما حدث في المرة الأولى فقد كانت لتلك الفتاة جولة أخرى شبيهة، فقد سخر الله سبحانه لها من لا يشاركها في الدين والوطن، فينبري محاولا ومجاهدا ومنطلقا من تقديره لتميزها وكفاءاتها ليحصل لها على مقعد في الجامعة. ولم يكتف بذلك (تقول الأم) وإنما منحها وظيفة باحثة في مكتبه مقابل سداد رسومها الدارسية. وتواصل الأم: ولله الحمد، فقد واصلت صغيرتي طريقها ورزقها الله الهمّة والمثابرة، فجميع تلك الأبواب التي أراد ذلك الظالم أن يغلقها أمام ابنتي فقد كان الله سبحانه يسخر لها من يفتحها أمامها بحب وخير. وها هي الآن طبيية متخصصة تمثل وطنها ودينها خير تمثيل.
أتساءل أمام من سُدَّتْ تلك الأبواب، هل أمام تلك الصغيرة التي تنفست عطر الرحمة الإلهية أو ذاك الذي يحاول الآن التمسّك بتلابيب الحياة وقد أغلق أمام نفسه نسمات تلك الرحمة التي أتته مجانية؟.. وأيضًا من هو الوطني.. هل هو ذاك المتربع على عرش المنصب والظالم لأبناء وطنه أم تلك الفتاة التي رغم الظلم الواقع عليها ما زالت تعتز بوطنها وأمتها؟ وفي الختام قلت: ياليتنا نتعلم في أنّ فتح أبواب الخير أمام الآخرين هو توفيق من الله لنا. وأهمس لبعض من هؤلاء المسؤولين الذين اغتروا بمناصبهم ولم يدركوا أنّ أي خدمة نقدمها لأي مخلوق فإنّ خيرها يعود لذات الإنسان، بأنه "و ما تشاؤون إلا أن يشاء الله" فهل من معتبر!