السبت، 26 مايو 2012

اللغة صورة للوطن 2 – 2

تخيل وأنت في مؤتمر عالمي.. ما هي اللغة التي سوف تتكلم بها وأنت ترى غالبية المتحدثين يتحدثون بلغتهم الأم؟ قبل عدة أعوام عقد مؤتمر حول الرياضيات في إحدى الدول العربية تلقيت دعوة لحضورها...


http://main.omandaily.om/node/97483


  تخيل و أنت في مؤتمر عالمي.. ما هي اللغة التي سوف تتكلم بها و أنت ترى غالبية المتحدثين يتحدثون بلغتهم الأم؟
قبل عدة أعوام عقد مؤتمر حول الرياضيات  في إحدى الدول العربية تلقيت دعوة لحضورها، و كان بتمويل من  مؤسسة امريكية تجارية خصصت جزء من أرباحها لرعاية مؤتمرات حول التعليم. و كنت قد سبق أن رشحت لحضور مؤتمر آخر في الولايات المتحدة من قبل نفس المؤسسة حول الموهوبين من ضمن 50 مشاركا تم اختيارهم من انحاء العالم. و من خلال ذلك المؤتمر تم التعرف عليَّ، و طلب مني المشاركة في المؤتمر المنعقد في الدولة العربية تلك وكان المؤتمر يضم مشاركين من جميع الدول الخليجية بالإضافة الى مشاركين من معظم الدول العربية الأخرى. و قد كانت معظم الابحاث تدور حول تعليم الرياضيات و الموهوبين كما أن معظم الباحثين كانوا من دول عربية إلا القليل جدا و الذين كانت ابحاثهم منبثقة من ترايخ هذه المنطقة العربية مثل الدكتورة البريطانية إﻳﻠﻴﻨر روﺑﺴن/التي كان بحثها الممتع يدور حول الرياضيات في اللغة البابلية  و التي قضت أكثر من عام في العراق لدراسة تلك اللغة. فمعظم الأوراق البحثية المعروضة كانت بالعربية، إلا قلة منها بسبب اختلاف اللغة الأم للبعض (كزميلتي البريطانية) أو بعض اولئك العرب الذين أرادوا استعراض مهاراتهم في اللغة الانكليزية. هذا الوضع العربي الانكليزي كان المحرك للحوار الذي دار بيني و بين أحد المتحدثين. فأخونا المتحدث من البلد العربي كان ضمن المجموعه التي كانت تضمني مع اثنين آخرين في نفس الجلسة. فعلق الأخ مشيرا الى عدم عفوية هذه المؤتمرات و أنها لا تهدف الى مصلحة العرب. مع اني شخصيا وجدتها على أقل تقدير أنها لعبت دورا في تعريفنا بالأبحاث الجارية في الدول العربية. فقلت له: فلماذا تحضرها إذن؟  فرد عليَّ: من باب التعرف على الآخرين. أي أن لها على أقل تقدير منفعة ما. و بعد حوار بسيط سألني عن اللغة التي سوف أعرض بها بحثي، فقلت له: بالعربية طبعا! ثم سألته بدوري نفس السؤال، فأجاب: بالإنكليزية.  قلت له: و لماذا الإنكليزية؟ ثم أضفت: نحن في دولة عربية.. نقدم أوراق عمل لخدمة واقعنا العربي و أيضا أن معظم المشاركين عرب.. فلماذا الإنكليزية؟  هذه الكلمات البسيطة غيرت طرح الزميل الذي قدم ورقته بالعربية بدلا من الانكليزية ممثلا وطنه خير تمثيل .. لأن الشعب الذي لا يعتز بلغته و كيانه و تاريخه شعب لا يملك دعائم التحضر!
تخيل أنك مشارك في هذا المؤتمر و انت تستمع لمعظم المشاركين سواء من دول المغرب العربي أو بعض الخليجيين أو مشاركين من بلاد الشام و هم يتحدثون بالعربية الصحيحة و السليمة و التي لا يشوبها اي تشويه من قبيل تذكير المؤنث أو تأنيث المذكر.. أو نطق الحاء هاء أو الغين قافا أو القاف غينا.. و لا تتخللها حروف و كلمات مكسورة بحيث تؤذي و تؤلم أذن السامع!  ثم يأتي من يمثل وطنك ليعرض محاضرته بالانكليزية ليس من باب التفاخر بقدرته في طرح موضوعه باللغة الانكليزية و انما لعجزه عن طرح الموضوع باللغة العربية (اللغة الرسمية للوطن).
في الماضي، حينما كنا نعجز عن التحدث باللغة الانكليزية كان يشوبنا احساس بالنقص،  أما الآن فإن هذا العجز لا يفسر سوى من باب ان زيادة الخير خير و لكني لست مطالب ان اكون متحدثا بارعا بلغة غيري.. خصوصا في ضوء الانتصارات العربية التي عززت الروح العربية و ساهمت في استقلالية الفكر العربي عما كان يغرس فينا من احساس بالعجز و الذي كان لسبب أو لآخر يتم ربطه بالدين و التراث و اللغة.  فهذا العجز عن التحدث باللغة الإنكليزية ليس عيبا و لا العلم بتلك اللغة مدعاة للفخر.. و إنما التحدث بلغة عربية مكسورة هو الذي يستدعي العطف و الشفقة على المتحدث حامل جنسية وطن عربي! و حينما يسألك شخص عن ممثلك أو سفير بلادك لماذا لا يستطيع التحدث بالعربية ماذا ستجيب؟ ألا يوحي لك ذلك السؤال أنك غير مثمن لتلك اللغة التي ليس كمثلها لغة من حيث ارتباطها بالدين و التراث العربي و الإسلامي. في هذه المؤتمرات الدولية حينما يترأسك شخص مذكره مؤنث و مؤنثه مذكر و عربيته لا تعكس جنسيته يا ترى ماذا سيكون إحساسك؟
في هذا العالم المتحرك و الذي نحاول ان نجد لنا موقعا متميزا فيه من حيث نشر تراثنا العربي و الإسلامي و إظهار و طننا بحلة متميزة.. يجدر بنا أن نغرس رياحين طيبة في كل مجال. فسؤال كهذا حول عدم الإمكانية اللغوية للممثل الرسمي للوطن سفيرا كان أم وزيرا .. وكيلا كان أم أي مسؤول رسمي،  فإن هكذا سؤال يجعلك في موقع العجز عن شرح قصور البعض في التحدث باللغة الرسمية للدولة و إتاحة المجال لهم بالتمثيل الرسمي.  فمدارة الآخرين أيا كان سبب المداراة  أو مهما اريد تفهمينا بـأهمية تحلي ممثلينا بالقدرة على التحدث باللغة الانكليزية للتواصل العالمي، يفند أمام عدد من الحقائق أولها ان هناك علما يسمى "علم الترجمة". فكل مترجم من اولئك المترجمين المرافق لرئيس دولة أو ممثل وطن يستطيع أن يوصل أفكارك و آراءك كما هو الحال مع الكثير من الأمم التي تعتز بلغاتها. ثانيا و الأهم، فإن التطور الحضاري و العلمي الذي قاده صاحب الجلالة (حفظه الله و رعاه)، جعل أبناء هذا الوطن الذين انغرست أولى نطفهم على أرض هذا الوطن و تشربوا بحبه و تراثه ليسو أقل كفاءة و قدرة في تمثيل الوطن من أية فئة أخرى تفتقر الى القدرة على التواصل بلغة الوطن، و هناك أمثلة لا حصر لها!
 هناك قيم و مبادئ و هناك مجاملات و توازنات لكن .. لا يجب ان تأتي على حساب المصلحة العليا للوطن. و التمثيل البناء للوطن لا يمكن ان يساوم من أجل إرضاء فلان أو علان .. و التركيز على اللغة سواء ممن تجنس حديثا او ممن عاد الى الوطن من هجرة طالت او قصرت من الدعائم الأساسية التي من المفترض التركيز عليها! 
لماذا هؤلاء سواء المتجنسين او العائدين الى أوطانهم من دول أخرى غير عربية حينما يستقرون في دول خليجية أو عربية أخرى يصلح لسانهم بالعربية و ينطلقون بها؟ و اذا استثنينا الأجيال السابقة و التي رجعت للبلد بعد ان تشكلت لغتها و تمرس لسانها على غير العربية فما بال الأجيال الحالية التي ولدت و ترعرعت على أرض هذا الوطن متنعمة بخيراته غير قادرة -مع الأسف -على التحدث بلغته؟ هذا السؤال لم يكن يثيرني إلا حين التقيت مع أحد الزميلات التي كانت لأسرتها تجربة مشابهة. فأسرتها رجعت الى الوطن بعد أن كان معظم ابنائها قد ولدوا في دولة غير عربية! و بعد أن رجعوا انتقلوا الى دولة خليجية و تجنسوا فيها.. و لكنها اليوم هي و بعضا من إخوتها و طبعا الأجيال الجديدة التي ولدت بعد عودتهم لا يختلفون من حيث اللهجة الخليجية او اللغة العربية الفصحى عن أبناء تلك الدولة الخليجية التي استقروا فيها... فهم يتحدثون العربية طلاقة و وضوحا! إلا أن نفس هذه الأجيال التي تربت و كبرت في عمان ما زالت بحاجة الى من يقوِّم لسانها بالعربية.. و الغريب أن هؤلاء المسؤولين تراهم حتى في مواقع مسؤوليتهم كالوزارات على سبيل المثال يرطنون بالإنكليزية. إن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم قبل أن تكون لغة أمة أو قوم.. و قد امتدحها الباري في قوله عز وجل: "لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، و هذا لسان عربي مبين.." فلْنُعِدِ النظر!